تخيّل أن تقطع المسافة بين سيدني ولوس أنجلوس، أي حوالي 12 ألف كيلومتر، في أقل من مدة فيلم سينمائي. هذا السيناريو، الذي بدا في السابق ضربًا من الخيال العلمي، قد يصبح حقيقة واقعة بفضل أبحاث جديدة حول الطيران بسرعات فرط صوتية. دراسة حديثة نشرت في دورية “نيتشر كومينيكيشنز” تلقي الضوء على إمكانية تحقيق هذا الهدف، وتحديدًا من خلال فهم أفضل لديناميكا الهواء عند هذه السرعات العالية.
تعتبر السرعات الفوق صوتية (Supersonic) والفرط صوتية (Hypersonic) حدودًا جديدة في عالم الطيران، حيث تتجاوز سرعة الصوت بشكل كبير. تفتح هذه التكنولوجيا آفاقًا واسعة في مجالات النقل العسكري والتجاري، وتقليل أوقات السفر بشكل جذري. لكن تحقيق ذلك يتطلب التغلب على تحديات هندسية وفيزيائية معقدة، أبرزها التعامل مع الحرارة الشديدة واضطراب الهواء.
سر “الماخ” الأعلى
الماخ هو مقياس للسرعة بالنسبة لسرعة الصوت. فالماخ 1 يعني سرعة الصوت (حوالي 1235 كيلومترًا في الساعة عند مستوى سطح البحر)، بينما الماخ 6 يعني ستة أضعاف سرعة الصوت، وهكذا. عند هذه السرعات العالية، يتحول الهواء أمام الطائرة إلى بلازما بسبب الاحتكاك الشديد، مما يولد حرارة هائلة.
إضافة إلى ذلك، يتغير سلوك الهواء بشكل كبير مع زيادة السرعة. في السرعات المنخفضة، يظل الهواء “غير قابل للانضغاط”، أي ثابت الكثافة. أما عند السرعات القريبة من سرعة الصوت وما فوقها، يصبح الهواء قابلاً للانضغاط، مما يؤثر على حسابات الرفع والسحب والدفع.
تصل بعض الطائرات العسكرية حاليًا إلى سرعات ماخ 2 أو 3، لكن الوصول إلى ماخ 10 (أكثر من 12 ألف كيلومتر في الساعة) يمثل تحديًا أكبر بكثير. يتطلب ذلك تطوير مواد وتقنيات جديدة قادرة على تحمل الحرارة الشديدة والتعامل مع اضطراب الهواء المعقد.
فرضية موركوفين: مفتاح لتصميم الطائرات الفرط صوتية
لطالما شكل فهم اضطراب الهواء عند السرعات الفوق صوتية والفرط صوتية عقبة رئيسية أمام تطوير هذه التكنولوجيا. لكن دراسة حديثة أثارت الأمل في تبسيط هذه العملية من خلال إعادة النظر في فرضية قديمة قدمها موركوفين في منتصف القرن الماضي.
تقترح فرضية موركوفين أن سلوك اضطراب الهواء عند السرعات العالية جدًا (مثل ماخ 6) قد يكون مشابهًا لسلوكه عند السرعات المنخفضة. إذا ثبتت صحة هذه الفرضية، فهذا يعني أنه يمكن استخدام مبادئ ديناميكا الهواء التقليدية، مع بعض التعديلات البسيطة، لتصميم طائرات فرط صوتية.
إثبات الفرضية من خلال التجارب
قام باحثون من معهد ستيفنز للتقنية في الولايات المتحدة بإجراء تجارب جديدة لإثبات فرضية موركوفين. حقنوا غاز الكريبتون داخل نفق رياح بسرعة ماخ 6، واستخدموا ليزرًا لتحويل الغاز إلى خط متوهج من الذرات المتأينة. ثم سجلوا كيفية التواء وانحراف هذا الخط باستخدام كاميرات عالية الدقة، مما سمح لهم برصد تفاصيل اضطراب الهواء.
أظهرت النتائج أن سلوك الاضطراب عند ماخ 6 كان قريبًا جدًا من سلوكه في السرعات المنخفضة، مما يدعم فرضية موركوفين. هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام تطوير طائرات فرط صوتية بشكل أسهل وأكثر كفاءة.
من الطيران التجاري إلى العسكري: الآثار المستقبلية
إن فهم اضطراب الهواء عند السرعات الفوق صوتية والفرط صوتية له آثار كبيرة على كل من الطيران التجاري والعسكري. يمكن أن يؤدي إلى تطوير طائرات ركاب أسرع وأكثر كفاءة، بالإضافة إلى طائرات مقاتلة أكثر تطوراً. كما أن هذه التكنولوجيا قد تفتح الباب أمام الوصول إلى الفضاء دون الحاجة إلى صواريخ.
في الوقت الحالي، لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من البحث والتطوير لتحويل هذه الإمكانات إلى واقع. لكن الدراسة الجديدة تمثل خطوة مهمة إلى الأمام، وتشير إلى أن الطيران بسرعات فرط صوتية قد يكون أقرب مما نعتقد. من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة مزيدًا من التقدم في هذا المجال، مع التركيز على تطوير مواد جديدة وتقنيات متقدمة للتحكم في الحرارة والاضطراب.



