في الزاوية الشمالية من ملعب اليرموك، حيث اعتاد محمد موسى أن يجلس برفقة أبنائه ويهتف لفريقه المحلي، يقف اليوم على المدرج الإسمنتي المتهالك يراقب خياما مهترئة نصبت على المستطيل الأخضر، وقد تحول الملعب إلى مركز إيواء عشوائي يستضيف مئات العائلات النازحة من أحياء غزة المدمرة نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل.

وقال موسى (38 عاما) “كنا نأتي هنا كل أسبوع، نهرب من صخب الحياة اليومية لنعيش دقائق من الفرح” مشيرا إلى أرضية الملعب التي غطتها الرمال بعد أن دمرت الحرب ما تبقى من عشبه الصناعي.

وأضاف المواطن الفلسطيني “هذا الملعب كان ملجأ للفرح، واليوم صار ملجأ من الخوف”.

من ملاعب إلى ملاجئ

قبل العدوان التي بدأ بعد يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان ملعب اليرموك يشكل قلب النشاط الكروي في قطاع غزة، حيث تستضيف مدرجاته العتيقة آلاف المشجعين في مباريات الدوري المحلي. لكن مع تصاعد القصف الإسرائيلي من البر والجو وتدمير البنى التحتية، أصبح الملعب شاهدا على مأساة مزدوجة.

استشهاد 762 رياضيا

وبحسب بيانات الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، فإن العدوان الإسرائيلي أدى إلى استشهاد 762 رياضيا ومدربا وإداريا، من بينهم 422 لاعب كرة قدم، إضافة إلى تدمير 267 منشأة رياضية تشمل ملاعب وصالات تدريب ومقرات أندية ومرافق اتحادات.

الدمار لم يقتصر على البنية التحتية فقط، بل امتد ليطال الروح الرياضية، كما يقول حسام أبو خاطر المعلق الرياضي الذي عرف صوته في إذاعات غزة المحلية واصفا لحظات الحسم في مباريات الدوري.

وقال حسام بحزن “اشتقنا لأصوات الجماهير، لصرخات الفرح والغضب، للكرة وهي تدور في المستطيل الأخضر.. الحرب سرقت منا كل شيء”.

لاعب الكرة الفلسطيني الشهيد إسماعيل أبو دان

الرياضة كمتنفس لمجتمع محاصر

لطالما شكلت الرياضة في غزة إحدى وسائل التنفيس الجماعي عن ضغوط الحصار والفقر والبطالة. في ظل غياب دور السينما أو المسارح أو الفضاءات الترفيهية، كانت ملاعب كرة القدم بمثابة الساحة الوحيدة التي يتنفس من خلالها الشباب.

وقال منذر زهران المحلل الرياضي “كرة القدم ليست مجرد لعبة هنا. هي تعبير عن وجود، عن هوية جمعية، وعن صمود مجتمع بأكمله في وجه كل أشكال القمع والحرمان”.

لكن هذا المتنفس اختفى تماما منذ اندلاع الحرب، إذ توقفت جميع المسابقات المحلية، ودمر العديد من الأندية مثل خدمات الشاطئ، اتحاد الشجاعية، بيت حانون الرياضي. ويعاني معظم الرياضيين الآن من النزوح، أو الإعاقة، أو فقدان أفراد من عائلاتهم، مما يجعل العودة إلى الملاعب حلما بعيدا.

أحلام تحت الأنقاض

محمد سلمي، لاعب سابق في أحد أندية غزة، ومحترف سابق لفترة قصيرة في النادي الأهلي المصري، يعيش اليوم مع أسرته داخل خيمة في حي تل الهوا بعد أن تم تدمير منزله في الشجاعية. ويقول بصوت متهدج “كنت أطمح أن أنتقل للعب في أحد الدوريات العربية، كان لدي عروض، لكن الحرب أنهت كل شيء”.

وأضاف “أحاول ألا أفكر كثيرا في الماضي، الآن همي تأمين الطعام والماء لأولادي. كرة القدم أصبحت ذكرى جميلة في زمن قاس”.

وتتكرر قصة سلمي مع عشرات اللاعبين الذين وجدوا أنفسهم فجأة من نجوم على ملاعب التراب والعشب إلى نازحين يبحثون عن الأمان في أماكن مؤقتة أو تحت القصف.

أندية بلا مقرات

دمرت مقار أندية تاريخية بشكل كلي أو جزئي، بعضها تعود نشأته إلى خمسينيات القرن الماضي، وكان يمثل جزءا من الذاكرة الجمعية لسكان غزة.

غزة الرياضي، وهو أقدم ناد فلسطيني، تعرض لأضرار جسيمة. كذلك قاعة سعد صايل المغلقة التي كانت تحتضن البطولات المحلية لكرة اليد والطائرة وكرة السلة، دمرت بشكل شبه كامل خلال قصف وسط المدينة.

مصطفى صيام، مسؤول الإعلام في اتحاد كرة القدم في غزة، يقول إن استهداف المنشآت الرياضية لم يكن عارضا، بل جاء ضمن سياسة ممنهجة لضرب كل ما يمثل الحياة في غزة.

وأضاف “هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها الرياضة، لكنها بالتأكيد المرة الأشد والأقسى. رغم ذلك، نؤمن بأننا سنعود، وسنبني من جديد”.

الاعتراف بفلسطين واللعب تحت القصف

مع تصاعد الدعوات الدولية للاعتراف بدولة فلسطين، وتأكيد دول مثل فرنسا وبريطانيا أنها قد تعلن الاعتراف رسميا في سبتمبر/أيلول المقبل في حال لم تتوقف الحرب، يرى البعض في القطاع الرياضي بصيص أمل في أن ينعكس ذلك على وضع الرياضة الفلسطينية.

لكن المحلل الرياضي زهران لا يرى في الاعترافات الدولية حلا مباشرا لمعاناة الرياضيين. ويقول “فلسطين موجودة كعضو كامل في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لكن هذا لم يمنع أن تُقصف ملاعبنا ويُقتل لاعبونا”.

وأكد “الخطوة الأهم تبقى في وقف الحرب، ومن ثم إعادة إعمار كل شيء، من المنازل إلى الملاعب”.

كرة القدم ستعود

رغم كل شيء، لا يزال الأمل حيا. فعندما تخفت أصوات الطائرات الحربية، ينتهز بعض الأطفال ذلك ويخرجون من داخل خيامهم يركضون خلف كرة مطاطية ممزقة. يضحكون، يتعثرون، ثم يعودون إلى أماكنهم. وفي عيونهم، حلم بسيط: أن تلعب غزة من جديد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version