خلال السنوات القليلة الماضية، اكتسب مصطلح التلاعب النفسي، أو ما يُعرف بالـ”غازلايتينغ” (Gaslighting)، شعبية واسعة، خاصةً مع انتشار “علم النفس الشعبي” عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. بل ووصل الأمر ليعلن عنه قاموس وبستر كـ “كلمة العام” لعام 2022. ومع ذلك، يرى خبراء النفس أن هذا الانتشار السريع أدى إلى “إساءة فهم هذه المصطلحات وإساءة استخدامها”، حيث أصبح الكثيرون يلجأون إليها للحكم على سلوكيات الآخرين دون فهم دقيق لمعانيها الحقيقية. فهل كل خلاف يعتبر نوعًا من التلاعب النفسي؟ هذا ما سنوضحه في هذا المقال.
ما هو التلاعب النفسي (الغازلايتينغ)؟
التلاعب النفسي هو شكل من أشكال الإساءة العاطفية الخطيرة، يتجاوز مجرد الخلافات أو الاختلاف في وجهات النظر. إنه محاولة ممنهجة لجعل شخص ما – أو حتى مجموعة من الأشخاص – يشك في إدراكه للواقع، أو في ذاكرته، أو في صحة مشاعره وتصوراته. تُعرّفه الدكتورة ساكشي كابور، وهي أخصائية نفسية، بأنه “خداع نفسي يهدف إلى إثارة الشكوك في أفكار الشخص وتجاربه لدرجة تجعله يشك في سلامته العقلية والنفسية”.
أهداف التلاعب النفسي
يكمن الهدف الأساسي من التلاعب النفسي في تغيير مسار الحديث ونقل الشعور بالذنب إلى الطرف الآخر، بهدف جعله يعتقد أنه هو المخطئ أو غير المنطقي. ويأتي هذا التلاعب غالبًا بشكل خفي وتدريجي، مما يجعل من الصعب على الضحية تحديد ما يحدث له بالضبط. قد يتضمن ذلك إنكار وقائع واضحة، مع التمسك بعبارات مثل “كلا، هذا لم يحدث قط” على الرغم من وجود دليل على العكس. أو تحريف الحقائق وإعادة صياغة المواقف، كما تشير الدكتورة شيرين محسن، “لتجعلك تبدو غير عقلاني أو مفرطًا في الانفعال”.
التعمد والتكرار: العلامة الفارقة للتلاعب الحقيقي
من المهم جدًا التمييز بين التلاعب النفسي الحقيقي وبين مجرد الخلافات أو سوء الفهم. فالعدوانية العاطفية أو التعامل مع شخص صعب ليس بالضرورة دليلًا على التلاعب. تشدد الدكتورة شيرين على أن التلاعب النفسي الحقيقي يتطلب شرطين أساسيين: التعمد والتكرار. بمعنى آخر، يجب أن تكون الأفعال مقصودة وليست مجرد نتيجة لسوء فهم أو اختلاف في وجهات النظر، وأن تتكرر تلك الأفعال بمرور الوقت.
تكمن خطورة التكرار، كما تفيد الدكتورة إيزابيل مورلي، في أنه يجعل الضحية يعتقد بأنه هو من يسيء فهم العالم من حوله، مما يفقده الثقة في نفسه وقدراته. هذا النوع من الإساءة العاطفية يمكن أن يسبب أضرارًا جسيمة، ويهدف إلى “مساعدة الشخص المسيء على اكتساب القوة والسيطرة من خلال جعل الضحية يشعر بالجنون والشك في نفسه”.
7 حالات قد نعتبرها تلاعبًا نفسيًا ولكنها ليست كذلك
كثيرًا ما نقع في فخ الاعتقاد بأن بعض السلوكيات تمثل تلاعبًا نفسيًا، بينما هي في الواقع مجرد مواقف مختلفة. إليك بعض الأمثلة:
اختلافات الذاكرة
من الطبيعي أن يتذكر شخصان نفس التجربة بطرق مختلفة، خاصة عندما تكون المشاعر قوية. محاولة شخص ما لإقناعك بأن ذاكرتك غير صحيحة قد تكون محاولة لتبرير تصرفاته، وليست بالضرورة تلاعبًا نفسيًا.
تباين وجهات النظر
الخلاف في الرأي لا يعني بالضرورة أنك تتعرض للتلاعب. مجرد أن يقول شخص ما إنه يرى الأمور بشكل مختلف، حتى لو كان بحدة، لا يُعد تلاعبًا. كما يوضح الدكتور بنجامين بيرنشتاين، “الأمر قد يكون مجرد شخصين ينظران للأمور من زوايا مختلفة”.
الكذب بهدف تجنب إزعاج الآخرين
لا يعني الكذب دائمًا التلاعب. غالبًا ما يكذب الناس لحماية مشاعر الآخرين، أو لتجنب مواجهة عواقب أفعالهم. الدكتورة مورلي توضح أن هذا يعتبر آلية دفاعية وليست بالضرورة تلاعبًا.
الانتقاد وتصحيح الأخطاء
تلقي انتقادات أو ملاحظات حول أخطائك ليس بالضرورة تلاعبًا، طالما أن الشخص لا يشكك في واقعك أو يوجه إليك اتهامات.
الدفاع عن النفس تحت الضغط
عندما يواجهك أحدهم ويقول “لم أقصد ذلك قط”، فإنه قد يحاول التخفيف من إحراجه أو الهروب من الشعور بالذنب، وليس بالضرورة خداعك.
ضعف مهارات التواصل
قد يبدو عدم النضج العاطفي أو صعوبة التعبير عن الذات وكأنه تلاعب، ولكنه في الواقع ناتج عن ضعف مهارات التواصل لدى الشخص.
عدم توافر كفاءة حل النزاعات
محاولة تجاوز المشكلة دون معالجتها بشكل حقيقي أو الاعتذار بشكل لائق لا يُعد تلاعبًا إذا لم يكن هناك محاولة لإنكار الوقائع أو إعادة صياغتها.
في الختام، من الضروري فهم الفرق بين الخلافات العادية و التلاعب النفسي الحقيقي. فالوعي بهذه الاختلافات يساعدنا على حماية أنفسنا وعلاقاتنا من الضرر، وعلى التعامل مع الآخرين بشكل أكثر فعالية. إذا كنت تشك في أنك تتعرض للتلاعب النفسي، فمن المهم طلب المساعدة من متخصص في الصحة النفسية.


