على أطراف مدينة إسطنبول التركية، تلوح للناظرين قرية “بولونيزكوي” كاستراحة هادئة تجمع بين الطبيعة وتاريخ عريق يعود إلى قرابة 180 عامًا. هذه القرية، أو قرية بولونيزكوي كما يطلق عليها، ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي حكاية مهاجرين بولنديين اختاروا أرضًا جديدة لتستقبل أحلامهم وتراثهم، لتصبح اليوم وجهة فريدة تجمع بين سحر الريف الأوروبي ودفء الضيافة التركية. تستقطب القرية الزوار الباحثين عن الهدوء والاسترخاء، وعن لمسة من الثقافة البولندية الأصيلة.

تاريخ بولونيزكوي: من “أدامبول” إلى القرية البولندية

تعود جذور بولونيزكوي إلى عام 1841، حين أسس الأمير البولندي آدم تشارتورسكي ممثلية لبلاده في إسطنبول. لاحقًا، استقر جنود بولنديون قاتلوا إلى جانب الدولة العثمانية في حرب القرم على أراضي القرية مع عائلاتهم. أطلقوا عليها في البداية اسم “أدامبول” أي “حقل آدم”، تكريمًا للأمير تشارتورسكي. وفي عام 1923، تغير الاسم رسميًا إلى “بولونيزكوي” والتي تعني “القرية البولندية” باللغة العربية.

تأسيس القرية ودور الجنود البولنديين

لم يكن استقرار الجنود البولنديين في هذه المنطقة مجرد مصادفة. فقد كانت الدولة العثمانية بحاجة إلى دعم عسكري، ووجد الجنود البولنديون في الدولة العثمانية ملاذًا بعد الصراعات التي عصفت ببلادهم. هذا التفاعل التاريخي ترك بصمة واضحة على هوية القرية وثقافتها.

معالم بولونيزكوي: مزيج من الثقافتين

عند مدخل بولونيزكوي، يستقبل الزائر مشهد يجمع بين الرموز التركية والبولندية. تتربع كنيسة القرية والمقبرة الكاثوليكية كمعلمين بارزين، إلى جانب منزل “الخالة زوشيا” التذكاري الذي يمثل جزءًا هامًا من ذاكرة القرية. يتجاور في الميدان الرئيسي الأعلام التركية والبولندية، بينما تروي اللوحات الموجودة قصة تأسيس القرية. لا يغيب عن الأنظار ختم عثماني وتماثل نصفي لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، مما يعكس التلاحم بين الثقافتين.

كنيسة القرية والمقبرة الكاثوليكية: رمز للإيمان والتراث

تعتبر الكنيسة والمقبرة الكاثوليكية من أهم المعالم الدينية والثقافية في القرية. تشهدان على الإيمان الراسخ الذي حافظ عليه المهاجرون البولنديون، وتمثلان مكانًا للذكرى والتأمل. تُعد المقبرة الكاثوليكية بمثابة سجل حي لتاريخ العائلات البولندية التي استقرت في المنطقة.

الحياة في بولونيزكوي اليوم: بين الماضي والحاضر

يسكن في القرية حاليًا حوالي 35 شخصًا من أصول بولندية، ضمن تعداد سكاني يقارب 370 نسمة. تحمل شوارع القرية وأحيائها أسماء بولندية مثل “آدم ميكيفيتش”، بينما تحمل بيوت الضيافة أسماء قديمة مثل “فريدي” و”لودفيك” و”ليو”. يقصد أهالي إسطنبول القرية في عطلات نهاية الأسبوع للاستمتاع بجمال الغابات ومسارات المشي والنُزل الريفية.

المطبخ البولندي واللغة المتوارثة

لا تزال المطاعم في القرية تعتني بإعداد الأطباق البولندية التقليدية، بينما لا يزال بعض كبار السن يتحدثون اللغة البولندية القديمة المتوارثة عن الأجداد. هذا الحفاظ على التراث اللغوي والثقافي يمثل جزءًا أساسيًا من هوية بولونيزكوي. كما أن الاحتفالات والمهرجانات، وخاصة عيد الميلاد، تعكس هذا التراث الغني.

بولونيزكوي وجهة سياحية فريدة

تزداد شعبية بولونيزكوي كوجهة سياحية، خاصة بين عشاق الطبيعة والباحثين عن تجارب ثقافية مميزة. يقول مختار القرية أوزر أوقوموش أن المنطقة من أجمل أماكن إسطنبول، وأن الهواء نقي والطبيعة ساحرة. ويضيف أن القرية جميلة في كل الفصول، حتى شتاؤها يتحول إلى لوحة خيالية عندما تتساقط الثلوج.

مهرجان الكرز والرقص الفلكلوري

يشتهر مهرجان الكرز الذي يقام صيفًا في القرية بجذب فرق رقص فلكلورية من بولندا، مما يقدم تجربة ثقافية فريدة للزائرين. يعتبر هذا المهرجان فرصة للاحتفال بالتراث البولندي وتعزيز التبادل الثقافي بين البلدين.

التعايش السلمي والتراث المستمر

تؤكد آنا فيلكوشيفسكي، إحدى أقدم أهالي بولونيزكوي، أن القرية كانت في السابق أكثر اكتظاظًا بالبولنديين، لكن الكثيرين منهم غادروها مع مرور السنوات. ومع ذلك، احتفظت القرية بروحها، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون بسلام كامل. يقول أنتوني دوهودا، وهو من الجيل السادس ويدير مطعمًا في منزل بولندي قديم، إن قصة القرية أصبحت مصدر فضول للناس، وأن الزوار يشعرون برائحة بولندا في كل زاوية.

في الختام، بولونيزكوي ليست مجرد قرية، بل هي قصة نجاح في التعايش والتراث. إنها وجهة فريدة تجمع بين جمال الطبيعة وعمق التاريخ، وتستحق الزيارة لمن يبحث عن تجربة سفر أصيلة ومميزة. لا تتردد في استكشاف هذه الجوهرة الخفية على أطراف إسطنبول، واكتشاف سحرها الخاص.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version