تتربع مدينة ترينتو في قلب شمال إيطاليا كواحدة من جواهر البلاد الخفية، وتستحق بحق لقب “جنة البحيرات”، إذ تضم أكثر من 300 بحيرة تتميز بمياهها الفيروزية الرقراقة. من بينها، تتصدر بحيرة “مولفينو” قائمة الأجمل على مستوى البلاد، حيث فازت بهذا اللقب عدة مرات، آخرها عام 2024.
ورغم موقعها الإستراتيجي بين قمم جبال الألب الشاهقة، غالبا ما تغيب ترينتو عن قائمة أولويات السياح مقارنة بمدن إيطالية أكثر شهرة، مثل فيرونا أو ميلانو. غير أن من يتجول في أزقتها وساحاتها العريقة، ويستكشف قصورها وقلعتها التاريخية “بونكونسيليو”، يدرك سريعا أن المدينة تحتضن مزيجا مدهشا من الطابع المتوسطي والجمال المعماري الغني الذي يعكس تاريخا ضاربا في القدم، يعود إلى شعوب الكلت، ثم الرومان الذين أسسوا مدينة “ترايدنتوم” الاسم اللاتيني لترينتو.
الحفريات تحت أزقة البلدة القديمة كشفت عن نظام عبقري لقنوات المياه يعود للعهد الروماني، مما يؤكد إدراك الرومان لأهمية هذه المنطقة المحورية في وادي “أديجي”. ولم يكن من قبيل المصادفة أن اختارها الأباطرة الألمان ممرا رئيسا في طريقهم إلى تتويجهم في روما خلال العصور الوسطى.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أسست ترينتو جزءا كبيرا من نهضتها على وفرة المياه، من خلال تطوير محطات توليد الطاقة الكهرومائية، مما جعلها اليوم من المدن المساهمة في تغذية مناطق أخرى في البلاد بالكهرباء.
وادي البحيرات.. وجه آخر للجنة
يبعد “فالي دي لاغي” أو “وادي البحيرات” نحو 20 دقيقة فقط عن ترينتو، ويمتد على الجانب الآخر من جبل “مونتي بوندوني”. وتُعد بحيرة “توبلينو” نجم هذا الوادي، بجمالها الأخّاذ وقلعتها الحالمة ذات الطراز العائد إلى القرن الـ16، التي تطفو كجزيرة حجرية وسط الضباب، مستخدمة كموقع مثالي لتصوير الأفلام.
وتتميز هذه المنطقة بمناخ متوسطي معتدل، بفضل الجبال التي تحتضنها، وتمنحها حماية طبيعية من التغيرات المناخية القاسية. الغطاء النباتي هنا متنوع؛ من كروم العنب “نوسيولا” التي تتسلق المنحدرات، إلى أشجار التين والدلب والسرو التي تعكس جمالها على سطح الماء.
أما رياح “أورا” الدافئة، فهي ظاهرة طبيعية تبدأ عادة من منتصف النهار، وتُحدث قناة هوائية تحمل الهواء من بحيرة “غاردا” باتجاه الشمال، مما جعل السكان المحليين يطلقون على الوادي لقب “وادي الرياح”.

رياضات مائية في “كافيدين”
عشاق ركوب الأمواج يجدون في بحيرة “كافيدين”، الواقعة خلف “توبلينو”، ملاذا مثاليا لممارسة رياضاتهم المفضلة، خاصة مع المنحدرات الصخرية التي تنعكس على سطح البحيرة، مضفية عليها طابعا دراماتيكيا.
أما محبو العزلة والاسترخاء، فيمكنهم زيارة بحيرة “لامار” الواقعة في الطرف الآخر من الوادي، وهي واحدة من أكثر البحيرات تفردا في المنطقة. وتحيط بها غابات كثيفة، ويزدهر فيها وجود الخفافيش، بل وحتى الدببة التي يُحذّر من وجودها في بعض اللافتات، خاصة مع إعادة إدخال هذه الحيوانات إلى جبال “دولوميت” قبل 25 عاما.
“مولفينو”.. درة البحيرات الإيطالية
ترتفع بحيرة “مولفينو” أكثر من 800 متر فوق مستوى سطح البحر، وتخطف الأنظار بلونها الزمردي البراق. تحيط بها شواطئ مرصوفة بالحصى ومروج خضراء فسيحة، مما جعلها تفوز مرارا بلقب أجمل بحيرة في إيطاليا. ولا يُسمح سوى للقوارب الكهربائية بالإبحار فيها حفاظا على صفاء مياهها.
وقد كانت هذه البحيرة، والبلدة التي تحمل اسمها، من أولى المناطق التي شهدت انطلاقة السياحة في ترينتو، إذ شُيّد فيها أول فندق في عام 1900 لاستقبال متسلقي الجبال الراغبين في صعود قمة “كروز ديل ألتيسيمو” التي تعلو 2339 مترا. كما يمكن للزوار اليوم استخدام التلفريك للوصول إلى ارتفاع 1500 متر.
وتتميز البحيرة بعمق يصل إلى 120 مترا، مما يجعل مياهها باردة حتى في أغسطس/آب، إذ لا تتجاوز 21 درجة مئوية. وتحيط بها 5 حصون صغيرة شُيدت تاريخيا لصد جيش نابليون، ويمكن الوصول إليها عبر جولة مشي ممتعة تستغرق ساعتين.
واليوم، تستضيف البحيرة بطولة “إكستيرا” العالمية في سباقات الترايثلون، التي نُقلت من “ماوي” في هاواي إلى “مولفينو”، وستُقام مجددا في سبتمبر/أيلول 2025.
“ليفيكو” و”كالدونازو”.. وجه آخر للاسترخاء
أما بحيرة “ليفيكو”، فتقع على بُعد 20 كيلومترا فقط من ترينتو، وتشتهر بمنتجعاتها الصحية في قرية “فيتريولو”، حيث تنبع المياه الحارة من ارتفاع 1500 متر. وقد منح الإمبراطور “فرانز جوزيف الأول” عام 1894 قرية “ليفيكو تيرمي” صفة مدينة ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية، وكان يتم تصدير زجاجات المياه العلاجية منها إلى برلين وموسكو.
أما بحيرة “كالدونازو” المجاورة، فهي المفضلة لدى سكان ترينتو، وتعدّ أكبر بحيرة سباحة في المنطقة، وموقعا مفضلا للتخييم، بفضل دفء مياهها واتساع مساحتها، كما ترتبط كلتا البحيرتين بكهوف جوفية مائية.
وفي أقصى الجنوب، تقع بحيرة “تينو” الصغيرة والمذهلة، ذات الشكل الدائري والمياه الفيروزية، على مقربة من ساحل بحيرة “غاردا” المزدحم. وتُطل عليها قرية “كانالي دي تينو” التي تعود إلى العصور الوسطى، وتُعد من أجمل القرى الإيطالية، يسكنها عدد من الفنانين، وتوفر إطلالات بانورامية على سواحل غاردا.
لكن بسبب الاكتظاظ السياحي في بحيرة “غاردا”، يفضل كثير من سكان ترينتو التوجه إلى بحيرات المرتفعات، حيث الجمال الهادئ والطبيعة البكر.