تشهد قارة أفريقيا نمواً ملحوظاً في قطاع الطيران، يتجاوز المعدلات العالمية، لكن هذا الازدهار الظاهري يخفي وراءه واقعاً صعباً لشركات الطيران العاملة في القارة. فبالرغم من ارتفاع الطلب على السفر الجوي، لا تزال هذه الشركات تعاني من ضعف الربحية وتواجه تحديات هيكلية وتشغيلية كبيرة تجعلها الأقل ربحية على مستوى العالم. هذا ما أكده تقرير حديث صادر عن الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا)، مسلطاً الضوء على التناقض بين النمو القوي والنتائج المالية المتواضعة. يركز هذا المقال على تحليل أسباب هذا التحدي، واستكشاف الفرص المتاحة لتعزيز ربحية شركات الطيران الأفريقية، ومستقبل الطيران في أفريقيا.
طفرة في الطلب.. أرباح غير متحققة
يشهد الطلب على السفر الجوي في أفريقيا ارتفاعاً كبيراً، مدفوعاً بالنمو السكاني، والتحسن الاقتصادي في بعض الدول، وزيادة الطبقة الوسطى القادرة على السفر. كميل العوضي، نائب رئيس إياتا لمنطقة أفريقيا والشرق الأوسط، أوضح أن هذا الارتفاع يتجاوز وتيرة النمو في العديد من المناطق الأخرى حول العالم. ومع ذلك، فإن شركات الطيران الأفريقية لا تستفيد بشكل كامل من هذه الزيادة في الطلب، حيث تقتصر أرباحها على جزء صغير من القيمة الاقتصادية الكلية للقطاع.
هذا الوضع يثير تساؤلات حول العوامل التي تعيق تحويل هذا النمو في الطلب إلى أرباح ملموسة. هل المشكلة تكمن في التكاليف التشغيلية المرتفعة؟ أم في ضعف البنية التحتية؟ أم في القيود التنظيمية التي تعيق المنافسة؟ الإجابة تكمن في مزيج من هذه العوامل وغيرها.
التحديات التشغيلية: تكاليف مرتفعة وبنية تحتية محدودة
تعتبر التكاليف التشغيلية المرتفعة من أبرز التحديات التي تواجه شركات الطيران في أفريقيا. تشمل هذه التكاليف أسعار الوقود المرتفعة، والتي غالباً ما تكون أعلى من المتوسط العالمي، بالإضافة إلى الرسوم والضرائب المرتفعة التي تفرضها الحكومات. إلى جانب ذلك، تواجه الشركات تكاليف كبيرة تتعلق بصيانة الطائرات والتأمين ورأس المال.
بالإضافة إلى ذلك، تعاني القارة من ضعف البنية التحتية للطيران، بما في ذلك نقص المطارات الحديثة والمجهزة، ومحدودية القدرة الاستيعابية للمطارات الحالية، وضعف شبكات الملاحة الجوية. هذه العوامل تزيد من التكاليف التشغيلية وتقلل من كفاءة العمليات.
نقص الطائرات وقطع الغيار
يزيد من تعقيد الوضع نقص الطائرات وقطع الغيار اللازمة لصيانتها. يشير تقرير إياتا إلى وجود تراكم في طلبات شراء الطائرات يتجاوز 17 ألف طائرة، مما يؤدي إلى تأخر تسليم الطائرات الجديدة وارتفاع أسعارها. كما أن متوسط عمر أسطول الطائرات في أفريقيا يبلغ 15 عاماً، وهو أعلى من المتوسط العالمي، مما يزيد من الحاجة إلى الصيانة والإصلاح. وقد تكبدت شركات الطيران الأفريقية أكثر من 11 مليار دولار إضافية نتيجة اختناقات سلاسل التوريد، بما في ذلك ارتفاع تكاليف الوقود والصيانة وتأجير المحركات وتخزين قطع الغيار.
تعزيز القدرات المحلية: خطوة نحو الاستدامة
على الرغم من هذه التحديات، تبذل شركات الطيران الأفريقية جهوداً لتعزيز قدراتها في مجال الصيانة والإصلاح. هذه الخطوة تعتبر ضرورية لتقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية وخفض التكاليف. ومع ذلك، لا تزال الشركات بحاجة إلى دعم من المصنعين والموردين لبناء مرافق صيانة حديثة وتطوير معايير عالمية. تطوير قطاع الطيران يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتدريب والتكنولوجيا.
مستقبل واعد.. بشرط الإصلاح
تشير التوقعات إلى أن سوق السفر الجوي في أفريقيا سيشهد نمواً قوياً في العقود القادمة. من المتوقع أن ينمو السوق بنسبة 4.1% سنوياً ليصل إلى 411 مليون مسافر بحلول عام 2040، مما يجعله ثالث أسرع سوق نمواً على مستوى العالم.
لكن تحقيق هذا النمو يتطلب إصلاحات جذرية في قطاع الطيران الأفريقي. يجب على الحكومات العمل على خفض التكاليف التشغيلية، وتحسين البنية التحتية، وتحرير الأسواق من خلال تنفيذ “اتفاقية ياموسوكرو” ومبادرة السوق الأفريقية الموحدة للنقل الجوي. هذه الإصلاحات ستساعد على تعزيز المنافسة وتحسين الكفاءة وزيادة الربحية لشركات الطيران الأفريقية.
الطيران كمحرك للتنمية الاقتصادية
يؤكد كميل العوضي أن الطيران يمكن أن يكون محركاً أساسياً للتحول الاقتصادي في أفريقيا، إذا تعاملت الحكومات معه كقاطرة للتنمية وليس مجرد مصدر للإيرادات. فالطيران يساهم في خلق فرص العمل، وتعزيز السياحة، وتسهيل التجارة، وربط المناطق النائية بالعالم. لذلك، يجب على الحكومات الاستثمار في قطاع الطيران وتوفير بيئة مواتية لنموه وازدهاره.
في الختام، يواجه قطاع الطيران في أفريقيا تحديات كبيرة، لكنه يتمتع أيضاً بإمكانيات هائلة. من خلال الإصلاحات الجريئة والاستثمارات الذكية، يمكن لشركات الطيران الأفريقية التغلب على هذه التحديات والاستفادة من النمو المتوقع في الطلب على السفر الجوي، وتحقيق ربحية مستدامة، والمساهمة في التنمية الاقتصادية للقارة. ندعو جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومات وشركات الطيران والمصنعين والموردين، إلى العمل معاً لتحقيق هذا الهدف.


