الدنمارك، أرض الملاحم الإسكندنافية، تجذب السياح بجمالها الهادئ وتاريخها العريق. فالدنمارك ليست مجرد وجهة سياحية حديثة، بل هي مهد الفايكنج الأسطوريين، الذين تركوا بصمات لا تُمحى على هذه الأرض، وعلى العالم. رحلة عبر الدنمارك هي بمثابة السفر عبر الزمن، لاستكشاف آثار هؤلاء المحاربين والمستكشفين، وفهم حقبة تاريخية شكلت جزءًا كبيرًا من الهوية الدنماركية. هذا التراث الغني يفتح أبوابه للزوار، الذين يمكنهم اليوم أن يعيشوا تجربة فريدة على خطى الأجداد.
الدنمارك: حيث يلتقي التاريخ والحداثة
تتميز الدنمارك بتوازنها الفريد بين الحداثة الإسكندنافية والتاريخ الملحمي. فبين المدن النابضة بالحياة، والمناظر الطبيعية الخلابة، تظهر معالم تعود إلى عصر الفايكنج، لتذكرنا بأصول هذه الأمة. إن الحفاظ على هذه المواقع التاريخية، وتقديمها للزوار بطريقة شيقة، يجعل من الدنمارك وجهة لا مثيل لها لمحبي التاريخ والثقافة. رحلة استكشافية في الدنمارك تأخذك في جولة عبر غوتلاند، وفونين، وزيلاند، محطات رئيسية تحكي قصص الغزو والاكتشاف.
يلينغ: مهد الأمة الدنماركية
تعتبر يلينغ المحطة الأولى في هذه الجولة التاريخية. هنا، يرتفع حجر يلينغ الروني شامخًا، كشاهد على تأسيس الأمة الدنماركية. هذا الحجر، الذي يبلغ ارتفاعه 1.90 متر، هو جزء من متحف تفاعلي وموقع تراث عالمي معتمد من اليونسكو.
حجر غورم وثيرا: قصة حب وتأسيس أمة
يذكر المرشد السياحي سورين مولز أن “نحن نقف عند مهد أمتنا”. فالنقش على الحجر، الذي أقيم بتكليف من الملك غورم حوالي عام 950 ميلاديًا، يخلد ذكرى زوجته ثيرا، ويدعو إليها بـ “فخر الدنمارك”. لم يكن هذا الحجر مجرد نصب تذكاري، بل كان إعلانًا عن ميلاد هوية وطنية جديدة. على الرغم من الاعتقاد بوجود رفات الملك غورم في التلال المجاورة، إلا أن الغرفة الجنائزية الحقيقية اكتشفت بالصدفة، واحتوت على أسلحة وفضة ومقتنيات ثمينة، ولكن رفات الملك بقيت مجهولة حتى عام 1977، حين عُثر عليها تحت الكنيسة. لاحقًا، الأمر بصنع حجر روني آخر، والذي يعتقد البعض أنه أعلن نهاية عصر الفايكنج مع أخذ الأمور في إعتبار.
لادبي: داخل قبر سفينة ملكية
تنتقل الرحلة إلى لادبي، حيث يقع “مقبرة السفن” الوحيدة في الدول الإسكندنافية. اكتُشفت هذه السفينة عام 1937، وهي تقدم دليلًا ماديًا نادرًا على تقاليد الدفن البحرية لدى الفايكنج. يمكن للسياح الدخول إلى الموقع والتجول حول هيكل السفينة، الذي يبلغ طوله 22 مترًا، والذي يضم رفات 11 حصانًا و4 كلاب.
طقوس الدفن البحرية لدى الفايكنج
يشير هيكل السفينة إلى استخدامها في البحر، ويقدم النموذج بالحجم الطبيعي تصورًا لكيفية تجهيزها للدفن. كان الملك الراحل يرقد على قطعة قماش فاخرة منسوجة بخيوط ذهبية، تحيط به أطباق من الفضة والبرونز، وسلال مليئة بالطعام والفراء والأدوات. كانت الحيوانات تُضَحى وتوضع في السفينة، لترافق الملك في رحلته إلى الآخرة.
روسكيلد: الإبحار على طريقة الفايكنج
في روسكيلد، ينتظر الزوار اكتشاف المزيد عن براعة الفايكنج في بناء السفن والإبحار. في ستينيات القرن الماضي، تم انتشال بقايا خمس سفن من مضيق روسكيلد، بما في ذلك سفينتان حربيتان وسفينة مخصصة للإبحار في أعالي البحار.
متحف السفن: شهادة على براعة الفايكنج البحرية
يضم متحف السفن أجزاء من هذه السفن الغارقة، ويعرضها بطريقة توحي بالمهارة الهندسية والقدرة البحرية التي تميز بها الفايكنج. يمكن للزوار المشاركة في ورش عمل لبناء السفن باستخدام الأساليب القديمة، وحتى القيام برحلات قصيرة على متن سفن فايكنج مُعاد بناؤها، لتجربة الشعور بالقوة والحرية الذي كان يرافق هؤلاء البحارة الأسطوريين.
أودنسه: المقايضة من أجل “فالهالا”
أودنسه هو المكان الذي تركت فيه معتقدات الفايكنج أثرها العميق. فقد أعلن الملك هارالد بلوتسان اعتناق المسيحية عام 970 ميلاديًا، وأقام تمثالاً للسيد المسيح، وتقييد معتقداتهم الوثنية. ولكنه أيضًا عمل على توحيد شعبه، وتعميق تحالفاته، وإعادة ربط الناس ببعضهم البعض.
نهاية عصر الفايكنج في أودنسه
كانت مدينة أودنسه مكرسة لعبادة الإله “أودين”. ويشير صليب محفور في الأرض إلى موقع مذبح كنيسة سابقة، حيث قُتل الملك كنود الرابع، آخر ملوك الفايكنج، على يد رعاياه الثائرين عام 1086. وهكذا، انتهى عصر الفايكنج في الدنمارك، ولكن إرثه لا يزال حيًا في قلوب وعقول الناس.
أرض الأساطير: معايشة حياة الفايكنج
لإكمال هذه التجربة الفريدة، يمكن للزوار التوجه إلى “أرض الأساطير” بالقرب من روسكيلد. هنا، يمكنهم معايشة حياة الفايكنج اليومية، واستكشاف المساكن التقليدية، والمطابخ المفتوحة، والحدائق العشبية. يمكنهم المشاركة في الأنشطة مثل صناعة الملابس، وطحن الحبوب، وإعداد الخبز. وتؤكد عالمة الآثار ناتاشا شتوفهاس على أن “هذه الفعاليات تقربنا جدًا من حياة الفايكنج الحقيقية”. لقد كانت نساء الفايكنج يتمتعن بقوة واستقلالية كبيرتين، وربما كان لهن دور أكبر في قيادة المجتمع مما كان يُعتقد سابقًا.
ختامًا، الدنمارك ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي نافذة على عالم الفايكنج العظيم. رحلة عبر هذه الأرض الساحرة هي فرصة لاكتشاف التاريخ، وفهم الثقافة، والتمتع بالجمال الطبيعي، وتجربة المغامرة. إنها دعوة لاستكشاف عالم الأجداد، والمشي على خطاهم، وفهم الإرث الذي تركوه لنا. لا تتردد في زيارة الدنمارك، وانطلق في رحلة لا تُنسى عبر الزمن.


