وضع الهدنة في لبنان: عام على “وقف إطلاق النار” وتهديدات بتصعيد جديد

لم تكن هبة الأمين، المقيمة في منطقة الأوزاعي في بيروت، لتتصور أن ذاكرة تلك الليلة ستظل تطاردها لفترة طويلة. مع حلول الساعة الرابعة فجرًا، تقريبًا وقت بدء سريان وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024، لم تغمض عيون اللبنانيين. جلست هبة بانتظار اللحظة التي ستعود فيها إلى منزلها الذي اضطرت لتركه.

في الصباح، وبينما كانت في طريقها إلى بيروت، شاهدت مشهدًا مؤثرًا: العودة الجماعية للناس إلى ديارهم، وليدة جديدة. تقول هبة: “كان مشهدًا بيفرّح عنجد”. بالنسبة لها، كان احتمال فقدان المنزل هو الأكثر رعبًا. وعلى الرغم من أن القصف لم يستهدف عائلتها بشكل مباشر، إلا أن التجربة تركت أثرًا عميقًا: خوف مستمر، وشعور دائم بعدم الأمان، وقلق يومي من سماع أي صوت يذكرها بـ”جدار الصوت”. تضيف لـ”يورونيوز” أنها اليوم غير قادرة حتى على تحمل صوت المفرقعات: “الخوف صار ملازم”.

بعد مرور عام على الاتفاق، لم تقتنع هبة تمامًا بأن الحرب قد انتهت فعليًا. فالقصف لم يتوقف بشكل كامل، والطائرات الإسرائيلية تظل تحلق في الأجواء، والعمليات العسكرية تتنقل من منطقة إلى أخرى، بينما يعيش الناس في انتظار الضربة التالية. هذا الواقع يعكس هشاشة الأوضاع في المنطقة.

اتفاق هشّ وتقويض مستمر للهدوء

نصّ الاتفاق على التزام إسرائيل بالامتناع عن استهداف الأراضي اللبنانية بأي شكل من الأشكال (برًا وبحرًا وجوًا)، مقابل وقف كامل للعمليات العسكرية من قبل حزب الله. إلا أن المسار الذي تلى الاتفاق كان عكس ذلك تمامًا، حيث بدا الواقع الميداني أبعد ما يكون عن الهدوء. وشهدت الأشهر اللاحقة خروقات إسرائيلية مستمرة وتصعيدًا يكاد يقضي على أي أمل في تحقيق تفاهم مستقر.

ومع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن لبنان يتعرض لاستهدافات شبه يومية: غارات جوية، وتدمير للأراضي، وتحليق مستمر لطائرات الاستطلاع في الأجواء اللبنانية. وتصاعدت الهجمات إلى مستوى غير مسبوق مع اغتيال إسرائيل لقائد أركان حزب الله، هيثم الطبطبائي، الرجل الثاني في الحزب بعد الأمين العام نعيم قاسم. هذه الضربة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت رسالة رمزية، واستهدافًا لطبيعة الموقع، وتوقيتها لم يكن منفصلاً عن سياق الضغط الإسرائيلي المتزايد بهدف دفع لبنان نحو نزع سلاح حزب الله.

وأعلنت قوات اليونيفيل أنها رصدت منذ توقيع الاتفاق أكثر من 7300 انتهاك جوي إسرائيلي، بالإضافة إلى أكثر من 2400 نشاط عسكري شمال الخط الأزرق. هذه الأرقام تكشف أن وقف إطلاق النار، الذي كان من المفترض أن يوفر مظلة لحماية المدنيين، كان هشًا للغاية.

المخاوف من توسّع دائرة الصراع

تقول كوثر ياسين، من منطقة البقاع، في مقابلة مع “يورونيوز”: “ما في شي اسمه وقف إطلاق نار”. فالحرب، بالنسبة لها، لم تتوقف أبدًا. وتصف المرحلة الحالية بأنها الأخطر، لأن عدم القدرة على التنبؤ بالضربات يزيد من الشعور بعدم الأمان: “نحن عايشين قلق كل يوم”.

تعتبر كوثر أن ما يحدث اليوم هو “حرب فعلية”، وأن الاعتداءات اليومية لن تتوقف من خلال الدبلوماسية وحدها. وترى أن المواجهة المقبلة أمر حتمي، قد تكون صغيرة أو واسعة، لكنها معركة “للأسف” لا بد أن تقع، لأن الاعتداءات لن تتوقف ما لم يتم ردعها. التوتر الأمني في المنطقة يزداد حدةً يومًا بعد يوم.

أما هبة، فترى أن الحرب النفسية أشد وطأة من الحرب الميدانية، خاصة مع تداول الحديث عن “ضربات مؤكدة وموسعة”، مما يجعل الناس يعيشون في حالة انتظار دائم لانفجار جديد. هذه الحالة، في رأيها، تستنزف الإنسان أكثر من وقوع الحرب نفسها.

وبين روايتي هبة وكوثر، يتضح أن اللبنانيين لم يخرجوا فعليًا من حالة الحرب، على الرغم من مرور عام على الاتفاق. فالهدنة تبدو معلقة بخيط رفيع، بينما يتواصل التصعيد الإسرائيلي بلا هوادة، وتتوسع العمليات العسكرية، وتتصاعد الضغوط الدولية على لبنان، وصولاً إلى انتقادات أمريكية لأداء الجيش اللبناني وقائده رودولف هيكل، في ظل رفض حزب الله التخلي عن سلاحه.

هل يقترب لبنان من جولة جديدة من القتال؟

المشهد العام يوحي بأن الهدنة تعيش على حافة الانهيار، بينما يظل اللبنانيون معلّقين بين الخوف من توسع الحرب وغياب اليقين. وبذلك، يطرح الواقع الميداني والسياسي في لبنان سؤالًا جوهريًا مع حلول ذكرى 27 نوفمبر: إلى أي مدى يمكن لاتفاق وقف إطلاق النار أن يصمد في ظل آلاف الخروقات اليومية، والاغتيالات، والتقدم الإسرائيلي جنوبًا؟

من هنا، أجرت ‘يورونيوز’ مقابلة مع الكاتب والمحلل السياسي سركيس نعوم لطرح مقاربة واضحة حول المسار المحتمل.

يورونيوز: ندرك أن الحرب ما زالت مستمرة، وتحديدًا في الجنوب. فما هو تقييمك للوضع الحالي؟ وهل السيناريو الخاص بتوسع هذه الحرب واقعي وممكن، خصوصًا في ظل التهديدات الإسرائيلية واستمرار الانتهاكات؟

سركيس نعوم: الوضع الحالي لا يقل سوءًا عن حرب طاحنة قد تُستأنف مجددًا. نحن في حرب مستمرة، تصعد وتهدأ، لكننا لم ندخل مرحلة سلام بعد. ما زلنا في حالة حرب: حرب داخلية أولاً، بين الشعب اللبناني الذي قُسّم إلى طوائف ومذاهب، ولم يعد شعبًا موحدًا. الانتماء الوطني لم يعد للبنان، بل بات الانتماء الأسمى للطائفة أو للمذهب أو للدولة الراعية للطائفة.

لذلك أعتبر أننا ما زلنا في حرب مستمرة لم تنتهِ. إسرائيل لا تتورع عن قصف أي منطقة في لبنان، وإذا رصدت هدفًا تعتبره معاديًا، تقصفه.

يورونيوز: اليوم، يرفض حزب الله التخلي عن سلاحه ويهدد بوضع حد للاعتداءات. هل يمكن لهذا الموقف أن يؤثر على فرص التهدئة ويزيد احتمال التصعيد؟

سركيس نعوم: هذا أحد الأسباب المحتملة للتصعيد الذي قد تلجأ إليه إسرائيل. الجميع يعرف ما هو الهدف الإسرائيلي، وما الذي يردعهم، وما الذي قد يدفعهم، بموافقة دولية، إلى مواصلة حربهم على حزب الله أو على لبنان عبر حزب الله.

يورونيوز: برأيك، ما هي الحدود الفعلية لأحقية حزب الله في المواجهة على الساحة اللبنانية – الإسرائيلية؟

سركيس نعوم: في الموضوع اللبناني – الإسرائيلي، لحزب الله أحقية ما، لكن في الموضوع الفلسطيني فالوضع مختلف تمامًا. ولا يمكن أن يخوض حزب الله حربًا لدعم النفوذ الإيراني وتوسيعه في المنطقة. هذا التصنيف يهدد الوطن ويمزقه.

ختامًا، يبقى الوضع في لبنان على حافة الهاوية، مع استمرار التوتر الأمني وتصاعد الخروقات. فهل ستنجح الجهود الدبلوماسية في إنقاذ الهدنة؟ أم أن المنطقة مقبلة على جولة جديدة من الصراع؟ الإجابة على هذا السؤال معلقة بمستقبل التفاعلات الإقليمية والدولية، وقدرة الأطراف اللبنانية على تجاوز خلافاتها والعمل من أجل تحقيق الأمن والاستقرار.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version