رغم وفرة الكتّاب والمبدعين، إلّا أنّ كثيراً من النصوص والروايات والمجموعات الشعرية لا تزال حبيسة الأدراج!
نصوص مكتملة، وأحياناً ناضجة، وأخرى مؤجلة لم تأخذ طريقها للنشر، لأسباب تتعدد بين الخوف من ردود الفعل، والإحباط من دور النشر، والرغبة في الكمال، أو غياب الثقة بالوسط الثقافي.
واستطلعت «عكاظ» آراء كُتّاب عدة عن أسباب حبس الأعمال الإبداعية والفكرية في أدراج بعض الكُتّاب وخلف شاشات أجهزتهم الرقمية؛ وحرمانها من النور.
المؤلف سلعة في «بازار»
أقرّ الكاتب والباحث والأكاديمي العراقي علي ثويني بأنه واحد من هؤلاء المثقفين الذين ينتجون ويخزّنون أعمالهم على أمل أن تحلّ إشكاليّة النشر، التي وصفها بالمستعصية في الثقافة العربية.
ولفت إلى أنّ الذي يقرأ كثيراً لابد أن يكتب كثيراً، وأكد أنه وجد في المملكة العربية السعودية حركة قراءة نشطة ورائعة وواسعة، واستشهد على ذلك بمعارض الكتاب التي أمست مهرجانات اجتماعية، لكنه أشار إلى أنها لا تُقارن مع ما يُنتج من كتابات ومنشورات تطلق عنان الأفكار.
وأضاف: لديّ خمسة نصوص جاهزة وأجدها كلها ثرية؛ كونها أخذت مني الوقت والجهد والتجربة المعرفية، وأغلبها عن العمارة وفنونها وفكرها، لكنّ ما يحزّ في نفسي أنني أتلكأ في نشرها بسبب صعوبة التعامل مع الناشرين.
ولفت إلى أنّ جشع دور النشر الكبيرة أو حتى الناشرين الصغار الذين يتعاملون مع المؤلف كسلعة للربح والخسارة وليس كمنتج فكري يجزى عليه، كان السبب في عدم النشر، لأنّ عيون الناشرين مصوّبة نحو كيف وكم يربحون على حساب مجهودك وليس مجهودهم!
وتأسّف كثيراً على أنّ الناشرين لا يعيرون ما يقدّم المؤلف والباحث الاهتمام، لدرجة أنّ التعامل معهم أمسى مدعاة اشمئزاز وخيبة أمل.
وأشار إلى أنّ هناك فارقاً كبيراً بين ما يسعى له المؤلف وما تروم إليه دور النشر من استغلال ومصادرة لجهد المؤلف والباحث، لذلك فضّل مقاطعة هذا «البازار».
ورأى ثويني أنّ الحل لهذه المشكلة لا يكون إلاّ بتدخّل الدولة عن طريق مؤسسات رسميّة تتعهد بتبني المنتج الفكري على الأقل، وليس تقليلاً -كما قال- من شأن الشعر والسرديات التي تأتي في المرتبة الثانية؛ كونها إصدارات للمتعة وليس لتطوير مفاهيم فكرية تعاني منها المجتمعات وتسعى لأن توكلها للنخب.
العزوف خوفاً من الفشل
ويرى الكاتب حسين الملاك أنّ هناك أسباباً كثيرة لتكدّس الأعمال، والتردد في النشر؛ منها ما هو مادي بسبب تكاليف الطباعة، ومنها ما هو نفسي بسبب القلق من التجربة أو بسبب فشل تجربة سابقة.
وأكّد الملاك أنّ التجارب تكون أحياناً للذات وليست للنشر، أو أن تكون تجربة تم تجاوزها من خلال المؤلف.
غياب المردود المادي والمعنوي
ويؤكد الشاعر عبدالرحمن موكلي أنّ الكاتب أصبح يدفع من جيبه لنشر إبداعه في دور النشر التي لا تعطي المبدع إلا الفتات «هذا إذا أعطته». ولفت إلى أنّ هناك غياباً للمؤسسات الراعية للنشر التي كانت تقوم بهذا الدور قديماً مثل الأندية الأدبية.
الموكلي ذكر أنّ هناك مبدعين وصلوا لمرحلة العزوف عن النشر والمشاركة، لأنهم لا يحصلون على مردود معنوي أو مادي، والمبدع إنسان يجب مراعاته وتقديره لأنّه يقدّم منتجاً قيمياً، وهذا ما يجب أن تعرفه المؤسسات المعنية التي وجدت لخدمة الإبداع والمبدعين.
إجازة العارفين
فيما للكاتب عبدالعزيز النصافي وجهة نظر في التأليف عموماً، إذ أرجع بعض أخطاء التأليف إلى الاستعجال، والبدء قبل أن تتشكّل ملامح الكاتب الثقافية، وقبل أن يكتسب التجربة التي تجعله لا يندم على نشر ما يكتبه لاحقاً. وأشار إلى أنّه ضدّ أن ينشر الكاتب ما لم يقتنع بما ينشره عن وعيٍ ثقافيٍّ وإبداعيّ. وألمح إلى أنّه في تجربته البسيطة، ندم على القصائد التي نشرها في بدايته الشعرية، والمقالات التي نشرها في بدايته الصحفية، وحمد الله أنّه لم يطرق باب التأليف إلا بعد أن نضج من الناحية الثقافية.
النصافي أكّد أنّه على مدى عشر سنوات بعد تخرّجه في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، كان ينام على مقالة ويستيقظ على قصيدة، بحكم إشرافه على قسمٍ ثقافيٍّ نشطٍ ومتنوّع. ولم يكن يمرّ يومٌ إلا ويقرأ فيه كتاباً، لكنه ودّع هذا كلّه ولم يترك بصمة تذكر سوى أنه كان يقوم بواجبه الصحفي الثقافي بحبٍّ وشغف، من خلال استكتاب الكتّاب والشعراء والروائيين والمفكرين، ومحاورتهم، ومتابعة جديدهم، وقراءة ما يدور في الوسط الثقافي والفكري، مع أنه محسوب على بحر الثقافة والأدب.
ولفت النصافي إلى أنّه تنبّه إلى أن كثيراً من المبدعين الذين عملوا في الصحافة سرقت الصحافة أوقاتهم، «فخرجوا من المشهد بلا حمص»، والحال نفسها تنطبق على عددٍ من الأكاديميين الذين لم يخرجوا من تقوقعهم الأكاديمي، ولم يقدّموا للقارئ -خارج أسوار الجامعة- كتاباً يدلّ على علمهم ومكانتهم، لذلك كتب روايته الأولى «أغنية قادمة من الغيم» بعد أن أنهى مسوّدتها في 2022، وأجازها قبل طباعتها من عشرة مبدعين، وكذلك فعل مع كتابه الآخر عن فنّ القلطة، وقبل أن يرسله للمطبعة راجعه مع البروفيسور محمد راضي الشريف، وعرضه على عشرة نقّاد، منهم الدكتور عبدالله عويقل السلمي والدكتور جريدي المنصوري اللذان كتبا الغلاف الأخير، فأُجيز الكتاب بإعجاب، وقرر طباعته، مشيراً إلى أنّ الشاهد من هذا السرد أن الكاتب لو استثمر كل دقيقة من وقته، وأخلص لفكرته بجدٍّ وإصرار، لأنجز وأبدع، واستشهد بالإنتاج الأدبي والثقافي الغزير للدكتور غازي القصيبي، الذي لم تمنعه مشاغله الكبرى من أن يخلّد اسمه في سماء الأدب والجمال.
سوء الفهم والتقزيم
ويذهب الشاعر عبدالرحمن أحمد عسيري إلى أنّ المشكلة ليست في غياب الإبداع، بل في غياب البيئة التي تمنحه فرصة العبور إلى الضوء، فالكثير من الكتاب يعيشون بين هاجس وقلق البوح والانتشار وخوف التلقي؛ بمعنى يخشون سوء الفهم أو التقزيم أو لنسمِّه «التنكيل» النقدي، فيؤثرون الصمت على النشر.
ولفت إلى أنّ البنية المؤسسية للنشر لا تزال ضبابية، فقلّة من دور النشر تتبنى الأعمال الجادة، بينما تُثقل العوائق المالية كاهل المبدع، فتكلفة الطباعة من جيبه طبعاً، أما المشهد الثقافي العام فغالباً ما ينشغل بالمواسم والفعاليات أكثر من انشغاله بتكوين منظومة مستدامة تعتني بالكاتب المبدع والنصوص الجديدة.
وأشار إلى أنّه يؤمن أن الكاتب يواجه كذلك تحدي العصر الرقمي؛ إذ تتسارع المحتويات الخفيفة وتخبو المساحات التي تستقبل النصوص العميقة، هكذا يبقى الإبداع محاصراً بين بيئة لا تحتضنه، وذائقة عامة تبحث عن السريع والعابر.
واختصر عسيري مشكلة تكديس النصوص في الأدراج بأنها ليست لضعف فيها، بل غياب المسار الذي يعترف بها ويمنحها حق الظهور، فالإبداع موجود لكنه يحتاج من يهيئ له الحياة.
أخبار ذات صلة


