Published on 9/12/2025 | Last updated: 10/12/2025 02:00 (Mecca time)
Click here to share on social media

لا تُكتب كل الروايات بالحبر؛ بعضها ينحت في الألم، وهناك نصوص تولد في المطابع، بينما تولد أخرى في الزنازين. رواية “الشوك والقرنفل” ليحيى السنوار تنتمي إلى الفئة الثانية؛ عمل خرج من العتمة، لكنه أضاء الوعي أكثر مما أضاء الورق. هذه الرواية ليست مجرد حكاية للتسلية، بل هي غوص عميق في النفس الفلسطينية، وتأمل في جذور المقاومة وتشكيل الوعي الذي يدفع إليها. تستكشف الرواية كيف تتشكل الهوية الوطنية في ظل الظروف القاسية، وكيف تنتقل جذوة الرفض من جيل إلى جيل.

“الشوك والقرنفل”: سيرة ذاتية جماعية للمقاومة

تتميز “الشوك والقرنفل” بكونها لا تقدم سردًا خطيًا للأحداث، بل ترسم لوحة بانورامية للحياة في المخيم، بكل ما فيها من تناقضات وصراعات داخلية. الرواية لا تتجاهل الجوانب المظلمة في المجتمع، بل تسلط الضوء على هشاشته من خلال شخصيات مثل “حسن”، الذي يمثل نموذجًا للعميل الذي لم ينحرف فجأة، بل عبر سلسلة من الانكسارات وصولًا إلى نقطة التحول. هذا التصوير الواقعي يمنح الرواية مصداقية عالية، ويجعلها أكثر تأثيرًا في القارئ. إنها ليست مجرد قصة عن البطولة، بل عن العوامل التي تدفع الإنسان إلى الخيانة، أو إلى التضحية.

الأم: صانعة الوعي الخفية

يلفت النص الأنظار إلى دور البطولة الذي لا يظهر في المشهد النمطي؛ فالبطلة هنا ليست مقاتلة تحمل السلاح، بل هي الأم التي تحمل على عاتقها مسؤولية تربية جيل في ظل غياب الأب. إنها امرأة تجسد الصمود والتضحية، وتزرع بذور الرفض في قلوب أبنائها من خلال تربيتها وتعليمها. هذه الأم ليست مجرد شخصية ثانوية في الرواية، بل هي المحرك الأساسي للأحداث، وهي التي تحدد مسار الأبطال. بهذا المعنى، تعيد الرواية تعريف البطولة، وتؤكد أن المقاومة ليست مجرد فعل فردي، بل هي نتاج تربية طويلة وصبر صامت.

الخيانة ليست استثناءً: جرح في جسد المجتمع

لا تجمّل الرواية صورة المخيم، بل تكشف عن التحديات والصراعات التي يعيشها سكانه. شخصية “حسن” ليست مجرد خائن، بل هي ضحية لظروف قاسية، وضعف إرادة، وتأثير عوامل خارجية. الرواية لا تحاكمه فحسب، بل تحاول فهم الأسباب التي دفعته إلى الخيانة، وتفكيك الظاهرة الاجتماعية التي يمثلها. هذا التحليل العميق يجعل الرواية أكثر من مجرد قصة سياسية، بل يجعلها دراسة في علم الاجتماع النفسي. إنها تطرح أسئلة صعبة حول المسؤولية الفردية والجماعية، وتدعو إلى التفكير النقدي في أسباب الانقسام والضعف. الخيانة هنا ليست مجرد فعل فردي، بل هي جرح في جسد المجتمع، يعكس هشاشته وانعدام الثقة.

لماذا لم يقاوم الجميع؟ عوامل مؤثرة في تشكل الوعي

تتقدم الرواية بإجابة غير مألوفة لسؤال يغيب عن الشعارات: لماذا تراجع بعض الفلسطينيين عن الفعل المقاوم، خاصة بعد نكسة 1967؟ تحديدًا، تركز الرواية على ثلاثة عوامل رئيسية:

  • الرخاء الاقتصادي المؤقت: كيف يمكن أن يؤثر تحسن الظروف المعيشية على الإرادة والرغبة في التغيير.
  • الاحتلال الناعم: كيف يمكن أن يخفف الاحتلال من حدة الألم دون إزالة جذوره، مما يؤدي إلى حالة من اللامبالاة واليأس.
  • الهزيمة النفسية: كيف يمكن أن تؤدي الهزيمة المتكررة إلى فقدان الثقة بالنفس، وإلى قناعة راسخة بـ “لا جدوى” من المقاومة.

هذا التحليل يوضح أن المقاومة ليست مجرد خيار سياسي، بل هي نتاج عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية معقدة. الرواية لا تقدم حلولًا سهلة، بل تدعو إلى فهم أعمق للتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني.

الشيخ أحمد ياسين: نقطة تحول في الوعي

لا تتوقف الرواية عند شخصية الشيخ أحمد ياسين كقائد سياسي، بل تقدمه كنقطة انعطاف في الوعي الفلسطيني. إيمانه الراسخ بأن “الإيمان ليس انسحابًا، بل هو انخراط في الجبهة” ألهم جيلًا جديدًا من الشباب، وجعلهم يرون في الدين قوة دافعة للمقاومة، وليس ملاذًا للهروب من الواقع. هذه اللحظة التاريخية أسست لجيل جديد لا يرى الدين عزلة، ولا الوطنية هرولة بلا اتجاه، بل يراهما موقفا واحدا متكاملا.

المخيم: حاضنة المقاومة الصامتة

المخيم في الرواية ليس مجرد مكان للسكن، بل هو “معمل اجتماعي” ينتج المقاومة بشكل طبيعي. الأزقة الضيقة هي دروس تكتيكية، والأغاني الشعبية هي شفرات إنذار، والطفل يتحول إلى عين ساهرة قبل أن يصبح مقاتلاً. هذه التفاصيل الصغيرة تكشف عن البنية الصامتة التي تصنع الحاضنة الشعبية للمقاومة، دون الحاجة إلى تنظير أو تعليم مباشر. إنها تؤكد أن المقاومة ليست مجرد فعل واعٍ، بل هي غريزة فطرية تتأصل في النفوس من خلال التجارب اليومية.

في الختام، “الشوك والقرنفل” ليست مجرد رواية، بل هي وثيقة تاريخية واجتماعية ونفسية. إنها قراءة عميقة في معنى المقاومة وكيفية تشكلها، وتأكيد على أن المقاومة ليست لحظة تنفجر فجأة، بل هي نبتة تنمو ببطء، وتتغذى بالألم والأمل، وبالشوك والقرنفل. الرواية تترك القارئ مع أسئلة مفتوحة حول مستقبل المقاومة، وتدعو إلى التفكير النقدي في أسباب الصمود والتحدي. إنها عمل يستحق القراءة والتأمل، ويثري المكتبة العربية برؤية جديدة ومختلفة حول القضية الفلسطينية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version