من الصعب تحديد نقطة بداية دقيقة لانتقال الآثار المصرية إلى بلدان أخرى، إلا أن السجلات تشير إلى ازدياد ملحوظ في هذا التدفق مع مطلع القرن التاسع عشر. بينما تأخرت الاستجابة الرسمية من القاهرة للمطالبة باستعادة جزء من تاريخها حتى القرن العشرين، يشهد هذا الملف زخمًا متجددًا مؤخرًا، مدفوعًا بشكل كبير بافتتاح المتحف المصري الكبير (GEM) الأسبوع الماضي. هذا الافتتاح لم يكن مجرد حدث ثقافي، بل نقطة تحول في ملف استرداد الآثار المصرية، وأثار نقاشًا عالميًا حول أحقية مصر في استعادة كنوزها.
افتتاح المتحف المصري الكبير وزخم المطالبات
في اليوم التالي مباشرةً لافتتاح المتحف المصري الكبير، أعلن رئيس الوزراء الهولندي ديك سخوف أن بلاده تعمل على إعادة قطعة أثرية مصرية تعود إلى أكثر من 3500 عام. القطعة عبارة عن رأس حجري للملك تحتمس الثالث، وصلت إلى هولندا بطرق غير قانونية وفقًا لتصريحاته. هذا الإعلان السريع يمثل بادرة إيجابية، ويعكس الضغوط المتزايدة على المؤسسات المتحفية الغربية.
تزامنت هذه الخطوة مع إعلان زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، عن إطلاق حملة لجمع مليون توقيع من المواطنين والسائحين بهدف الضغط على الجهات المعنية لإعادة الآثار المصرية المحتجزة في الخارج. الحملة تسعى للاستفادة من الوعي العام المتزايد بأهمية هذا الملف.
موقف الحكومة المصرية الثابت
وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، أكد أن مصر لن تتوانى عن المطالبة بآثارها المنهوبة والموجودة خارج البلاد، وذلك عبر كافة الوسائل المتاحة. وأشار إلى أن الحجة الغربية القديمة المتعلقة بعدم وجود مساحات عرض كافية في مصر، لم تعد مقنعة بعد افتتاح عشرات المتاحف الحديثة، وعلى رأسها المتحف المصري الكبير. وقد نجحت مصر مؤخرًا في استعادة 36 قطعة أثرية من الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكدة عزمها على مواصلة الجهود في هذا الاتجاه.
كيف خرجت الآثار من مصر؟ مسارات متعددة
إن فهم كيفية خروج الآثار من مصر ضروري لتطوير استراتيجيات فعالة لاستردادها. هناك عدة طرق ساهمت في هذا النزوح الثقافي.
التنقيبات غير القانونية والتهريب
اكتشف أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري، مؤخرًا محاولة للتنقيب عن الآثار داخل قصر ثقافة الطفل في الأقصر. هذه الواقعة الصادمة تعكس حجم الجرأة التي وصل إليها السارقون والمهربون. التنقيب غير الشرعي يمثل أحد أهم المسارات التي أدت إلى خروج القطع الأثرية، وغالبًا ما يتم تغذيته بالمزادات العالمية.
البعثات الأجنبية وقوانين قديمة
في الماضي، سمحت البعثات الأجنبية بالتنقيب في مصر بالاحتفاظ بنسبة من الآثار المكتشفة مقابل جهودها. على الرغم من إلغاء هذه الآلية مع صدور قانون حماية الآثار عام 1983، إلا أنها أدت إلى خروج عشرات الآلاف من القطع قبل ذلك.
الهدايا الملكية والظروف السياسية
لم يكن التهرب هو الوسيلة الوحيدة. سمح الحكام المصريون في أوقات سابقة بخروج الآثار كهدايا لتعزيز العلاقات مع دول أخرى. وشهد عهد محمد علي باشا (1805-1840) أكبر تدفق للآثار إلى الخارج.
عمليات السرقة من المتاحف
للأسف، لم تسلم المتاحف المصرية من عمليات السرقة. ففي الشهر الماضي، سرقت موظفة في المتحف المصري سوارًا ذهبيًا عمره 3000 عام. كما أن سرقة لوحة “زهرة الخشاش” لفان جوخ من متحف محمود خليل عام 2010، تعتبر من أبرز الحوادث في هذا المجال.
حجم النهب: أرقام صادمة
يُقدر عدد الآثار المصرية الموجودة في الخارج بأكثر من مليون قطعة. تشير الإحصائيات إلى أن المتحف البريطاني في لندن يضم حوالي 110 آلاف قطعة أثرية مصرية، بينما يمتلك متحف نويز في برلين حوالي 80 ألف قطعة، ومتحف اللوفر في باريس يضم نحو 55 ألف قطعة. بالإضافة إلى ذلك، توجد مجموعات كبيرة في متاحف أشمولي في أكسفورد، ومتروبوليتان في نيويورك، وتورينو في روما، وبنسلفانيا، وشيكاغو، وغيرها الكثير.
تتضمن أبرز القطع الموجودة في الخارج: لوحة رشيد، وتمثال رأس الملكة نفرتيتي، ومسلة رمسيس الثاني، ودائرة الأبراج من معبد دندرة، وتمثال الملك إخناتون، وتمثال حم أيونو، وكلها قطع ذات قيمة تاريخية وثقافية لا تقدر بثمن.
جهود الاسترداد والتحديات القانونية
أنشأت مصر الإدارة العامة للآثار المستردة عام 2002، والتي تعمل على رصد وتتبع الآثار المسروقة والمهربة، والعمل على استردادها عبر الدبلوماسية والقضاء. ويُجرم القانون المصري تهريب الآثار بعقوبات مشددة.
إلا أن هناك تحديًا قانونيًا كبيرًا يتمثل في اتفاقية اليونسكو لعام 1970، والتي تحظر الاستيراد والتصدير غير القانوني للممتلكات الثقافية، ولكنها لا تنطبق بأثر رجعي. وهذا يعني أن مصر لا تستطيع المطالبة بالقطع التي خرجت قبل عام 1970 بموجب هذه الاتفاقية.
تفعيل التكنولوجيا والحملات العالمية
مع افتتاح المتحف المصري الكبير، برزت مقترحات لاستخدام التكنولوجيا في دعم جهود استرداد الآثار المصرية. مقترح استخدام تقنية الهولوغرام لعرض نسخ طبق الأصل من الآثار الموجودة في الخارج داخل المتحف، يهدف إلى إبقاء هذه الآثار حاضرة في الوعي العام، وخلق رأي عام عالمي داعم لحق مصر في استعادتها.
كما أن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقاطع فيديو تظهر الآثار وهي تطالب بالعودة إلى وطنها، قد ساهم في زيادة التفاعل والاهتمام بقضية استرداد الآثار المصرية.
يؤكد الخبراء على ضرورة إطلاق حملة عالمية شاملة، تتضمن تنظيم مؤتمر دولي، والتحرك القانوني، وربما الانسحاب من اتفاقية اليونسكو لعام 1970، ووقف بعثات التنقيب التابعة للدول التي ترفض إعادة الآثار.
إن قضية الآثار المصرية المسروقة ليست مجرد مسألة قانونية أو دبلوماسية، بل هي قضية تتعلق بالهوية الوطنية والتاريخ والحضارة. فمصر، صاحبة أقدم الحضارات في العالم، لها الحق في استعادة كنوزها التي تم نهبها عبر القرون. ويتطلب ذلك تضافر الجهود الحكومية والشعبية، والاستفادة من كافة الوسائل المتاحة، بما في ذلك التكنولوجيا ووسائل الإعلام، لتحقيق هذا الهدف النبيل.



