روزي جدي، الاسم اللامع في سماء الأدب التشادي، سطع نجمه أكثر بعد فوزه بجائزة غسان كنفاني في الأدب لعام 2025 عن روايته “زمن الملل” الصادرة عام 2021، ضمن جوائز فلسطين الثقافية. هذا الفوز ليس مجرد تكريم لموهبة أدبية، بل هو اعتراف بقيمة صوت تشادي يتردد صداه في العالم العربي، ويحمل قصة جيل بأكمله. جدي، الذي يجسد حراكاً أدبياً تشادياً يكتب بالعربية، يقدم لنا في هذا الحوار، رؤيته حول الكتابة، الوطن، والهوية، مسلطاً الضوء على التحديات التي تواجه الأدب التشادي المكتوب بالعربية.
رحلة الروائي جدي: من نجامينا إلى العالمية
بدأت حكاية جدي مع الكتابة في مدينة صغيرة في شمال تشاد، لكن جذورها الحقيقية ترسخت في العاصمة نجامينا، حيث عاش طفولة مليئة بالتجارب. “وصلت إلى العاصمة نجامينا في حضن أمي وأنا ابن 3 سنوات. وهناك عشت طفولة ثرية جدا ومليئة بالتجارب والحكايات.” يرى جدي أن التجارب هي الوقود الذي يغذي الكتابة الجيدة، وأن الطفولة هي الحنين الدائم الذي يلهم الكاتب.
كيف كانت تلك الطفولة؟ يصفها جدي بأنها مواجهة مبكرة للحياة، “باكرا اضطررت إلى مواجهة الشارع والأطفال وإثبات الذات. كنت وحيدا، وعلي مواجهة الجميع فردا فردا حتى آخذ حقي عنوة وأجد مكانا في الألعاب ولقاءات الأنس.” لكن هذه التجارب لم تكن قاسية فحسب، بل كانت زاخرة بالقصص والأساطير التي سمعها في ليالي نجامينا، قصص عن الجن والعفاريت، عن التحولات السحرية، وعن الحياة الغريبة لأهل المدينة. هذه القصص شكلت عالمه الخيالي وألهمته في رحلته الأدبية.
التحديات والمفارقات: الأدب التشادي والعربية
على الرغم من موهبته الواضحة وإبداعه، يواجه جدي، وغيره من الروائيين التشاديين الذين يكتبون بالعربية، تحديات فريدة من نوعها. فالكتابة بالعربية في بلد تتربع فيه الفرنسية على عرش اللغة الرسمية ليست مهمة سهلة. السؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو: هل هو أدب أفريقي أم عربي؟ ويعبر جدي عن هذا التحدي قائلاً: “نكتب بلغة هي الثانية في بلادنا، ولا يعرف أغلب العرب أننا نكتب أدبا أفريقيا بالعربية.”
إضافة إلى ذلك، يواجه الأدب التشادي تحدي الاهتمام من قبل المؤسسات الأدبية العربية، حيث يرى جدي وجود “إقصاء في بعض الجوائز التي تتيح المشاركة فقط لمن هم أعضاء في جامعة الدول العربية.” بينما يتفق في أنهم يكتبون أدباً تشادياً في الجوهر، إلا أنهم يقعون في منطقة رمادية لا تتبناها المؤسسات بشكل كامل. هذا التحدي لا يقلل من قيمة الإبداع التشادي، بل يضيف إليه بعداً من الأصالة والمقاومة.
الرواية والتاريخ: سرديات متوازية
تشتهر أعمال جدي بمعالجتها للقضايا الاجتماعية والسياسية في تشاد، خاصة تلك المتعلقة بفترة ما بعد الاستقلال والحروب الأهلية. روايته الأخيرة، “التاريخ السري المعلن لآدم حواء” خير دليل على ذلك. إذ يطرح من خلالها تساؤلات حول العلاقة بين الرواية والتاريخ، وهل يمكن للرواية أن تحل محل كتب التاريخ؟
يرى جدي أن الرواية لا تغني عن التاريخ، لكنها تقدم قراءة مختلفة له، “لا نكتب تاريخا بالمعنى الحرفي، وإنما نقدم قراءة للتاريخ.” الرواية، بحسب جدي، قادرة على تقديم تفاصيل دقيقة ومشاعر إنسانية عميقة لا يمكن العثور عليها في كتب التاريخ التقليدية. كما أنها تركز على الدوافع والأسباب الكامنة وراء الأحداث، وتقدم دراسة اجتماعية للمجتمع. “فقراءة ثلاثية نجيب محفوظ أفضل من قراءة أي عمل تاريخي عن فترة ما بعد الاستعمار البريطاني.”
القلق والمنفى: ثيمات متكررة في أدب جدي
إذا تتبعنا أعمال روزي جدي، نجد أن هناك ثيمات متكررة تظهر باستمرار، مثل القلق والخوف والمنفى. هذه الثيمات ليست مجرد انعكاس لتجاربه الشخصية، بل هي تعبير عن معاناة مجتمعه بأكمله. يشرح جدي أن “مشاعر الخوف والقلق التي يعيدها الكاتب في أعماله ربما هي التي تشكل مجتمعه أو يعاني منها لأسباب سياسية أو اجتماعية.”
المنفى، بالنسبة لجدي، ليس مجرد مكان، بل هو شعور بالضياع والانفصال عن الذات والوطن. “حين يعيش المرء تحت سلطة دكتاتورية أو في مكان لا يستطيع أن يعبر فيه عن رأيه ويشعر فيه بالحرية، فإنه يعيش منفاه.” وهذا الشعور بالمنفى يترجم في شخصيات رواياته التي تعيش صراعاً داخلياً بين الرغبة في المغادرة والحنين إلى الوطن.
الرواية التشادية: هوية متميزة
على الرغم من التحديات، يؤكد جدي على وجود رواية تشادية متميزة، لها خصوصيتها الثقافية واللغوية. “ما أكتبه أنا هو رواية تشادية قبل أن تكون أفريقية أو عربية، لأننا نتناول قضايا تشادية ونتحدث عن شخصيات تشادية الملامح.” تجري أحداث رواياته في أماكن تشادية محددة، مثل نجامينا ونهر شاري وجبال تيبستي، وتتحدث عن حياة الناس في تشاد، بل وتستخدم اللهجة العربية التشادية.
البحث عن الوطن: حلم مستمر
في نهاية المطاف، يبدو أن أعمال جدي هي محاولة للبحث عن وطن بديل، أو بالأحرى، لإعادة بناء الوطن الذي فقده. “أنا أبحث عن السلام النفسي الذي كنت أملكه في طفولتي. أريد أن يصبح وطني مثل طفولتي: لا صراعات، ولا اقتتال، ولا أحقاد.” هذا الحلم قد يبدو مستحيلاً، لكن جدي يواصل الكتابة، آملاً أن تساهم رواياته في إحداث تغيير إيجابي في مجتمعه ووطنه.
إلى أي مدى يشغل جدي القارئ؟ يجيب: “يشغلني القارئ كثيرا. أشعر أحيانا أنني أكتب له، لكن من هو؟ بالنسبة لي هو أنا.” ويؤكد أن هدفه هو إمتاع القارئ وإثارة تفكيره، وليس إقناعه بوجهة نظر معينة. وهذا ما يجعل أعماله جريئة ومميزة، وقادرة على جذب انتباه القراء والنقاد على حد سواء.


