في ظل عالم يركز بصره على صراعات متعددة، يظل الأزمة السودانية حبيسة دائرة الإهمال، رغم ما تحمله من أبعاد إنسانية كارثية. مجلة “ترانزيشن” (Transition) الصادرة عن جامعة هارفارد، قررت أن تكسر هذا الحاجز وتخصص عددها الـ138 بالكامل لتسليط الضوء على هذه المأساة المتفاقمة، في محاولة لإيقاظ ضمير العالم. صدر العدد تحت عنوان مؤثر: “متى ستتجه كل الأعين إلى السودان؟”، وهو صدى لحملة #AllEyesOnSudan التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي.

مجلة “ترانزيشن” تطلق صيحة استغاثة من أجل السودان

يأتي هذا العدد في وقت حرج، حيث تتصاعد حدة المعاناة في السودان، وتظهر صور الدمار والتهجير القسري بشكل مأساوي. حرره الأكاديمية السودانية الأميركية رقية مصطفى أبو شرف، ويهدف إلى تقديم سرد شامل للأزمة، بعيدًا عن التبسيط والتجريد الأكاديمي، ومستندًا إلى شهادات حية من قلب الحدث. المسألة ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي قصص إنسان يتألم، وعائلات فقدت الأمن والأمان، ومجتمعات تواجه خطر الانهيار.

شهادات من قلب التجربة: أصوات مضطهدة تروي الحكاية

تؤكد أبو شرف في مقدمة العدد أن المساهمات المختلفة “ترفض التجريد الأكاديمي، وتنبثق من التجربة الحية: عائلات تفر من نقاط التفتيش، فنانون يوثقون التعذيب، مجتمعات تواجه تغييرا لا يُفهم”. السؤال الجوهري الذي يطرحه العدد هو: “هل سينجو السودان؟”. الإجابة، وفقًا للمحررة، لا تكمن فقط في قوة الشعب السوداني وإرادته في الصمود، بل تتطلب تدخلًا دوليًا جادًا يتجاوز النماذج التقليدية الفاشلة في التفاوض.

وتشير إلى أن قوى خارجية تعمل على تأجيج الصراعات من خلال تزويد الأطراف المتحاربة بالأسلحة، بينما تستغل الشركات متعددة الجنسيات الفوضى لتحقيق مكاسب مالية، بل وتعمل على “تسليح المجاعة” بشكل منهجي، وهي ممارسات تتكرر عبر القارة الأفريقية والعالم الجنوبي. هذا يضع الأزمة السودانية في سياق أوسع من التلاعب السياسي والاستغلال الاقتصادي.

المجاعة كسلاح حرب: تكتيكات إبادة ممنهجة

أحد الجوانب المروعة التي يكشفها هذا العدد هو استخدام الجوع كسلاح حرب. في مقال مصور بعنوان “سياسات الجوع في السودان”، تفصل الباحثة نسرين الأمين كيف تتعمد قوات الدعم السريع تسميم مصادر المياه، وتدمير قنوات الري، وإعاقة وصول الغذاء إلى المدنيين. وتوضح أنهم “مهندسو المجاعة”، حيث يقومون بنهب الآلات الزراعية وتلويث التربة، مما يجعل مساحات واسعة من الأراضي غير صالحة للزراعة.

وتنتقل الأمين لتسليط الضوء على الوضع المأساوي في الفاشر، عاصمة شمال دارفور، المحاصرة منذ مايو/أيار 2024. الحصار المفروض من قبل قوات الدعم السريع منع وصول الإمدادات الغذائية والمساعدات الإنسانية، مما أدى إلى حرمان مئات الآلاف من المدنيين من أبسط مقومات الحياة. بعضهم وصل إلى مرحلة يضطر فيها إلى تناول علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة، وهو دليل قاطع على الأزمة الإنسانية الحادة.

إبداع في وجه المأساة: أصوات أدبية وفنية من السودان

لا يقتصر العدد على التحليلات السياسية والتقارير الميدانية، بل يضم أيضًا مساهمات أدبية وفنية مؤثرة من نخبة من المبدعين السودانيين. أسماء لامعة مثل جمال محجوب، وفاتن عباس، وصفية الحلو، وأحمد عبد العال شاركوا بإنتاجهم الإبداعي الذي يعكس عمق المعاناة والأمل الصامد. بالإضافة إلى أعمال فنية قدمها فنانون مثل كمالا إسحاق، وإبراهيم الصلحي، وصلاح المر، وأمل بشير، وريم الجيلي.

“البازار القاتل” و”أم درمان: مرثية”: تأملات في الانهيار

في مقاله “البازار القاتل”، يعبّر جمال محجوب عن شعور الغربة وعدم التصديق، وكأن الحرب الأهلية كانت مجرد حلم بعيد، بينما كانت تحمل في طياتها بذور الدمار. أما رقية أبو شرف، فتقدم في مقالها “أم درمان: مرثية” نظرة مأساوية على الانهيار الذي يهدد المدينة، وتؤكد أن مجرد تذكر الماضي لا يكفي لفهم كيف وصل السودان إلى هذه المرحلة الحرجة. يجب التعمق في جذور المشكلة، وتحليل العوامل التي أدت إلى هذا الدمار الكارثي.

إطلالة على مستقبل غامض: دور المجتمع الدولي والمسارات الممكنة

يحتوي العدد على تحليلات معمقة من قبل باحثين وخبراء سياسيين، مثل أليكس دي وال، وحميد الطاهر علي، وأحمد علي سكينقة، وحسن موسى، حول التاريخ والسياسة السودانية. كما يتضمن مقالات تطلعية لألدن يونغ وليندا إيرولو حول دور الاتحاد الأفريقي والمسارات المحتملة نحو المستقبل. ولكن في ظل استمرار الإهمال الدولي، فإن السؤال المحوري يظل قائمًا: متى ستتجه كل الأعين إلى السودان، وتتحرك لإنقاذ شعب يواجه الإبادة الجماعية؟

فن المقاومة: ريم الجيلي والذاكرة في مواجهة نهاية العالم

تسلط المجلة الضوء على الفنانة السودانية ريم الجيلي، المعروفة بأسلوبها الفريد الذي يجمع بين الألوان الزاهية والزخارف المريحة لتصوير مشاهد من الواقع السريالي. في أعمالها، غالبًا ما تركز على النساء السودانيات في لحظات التأمل والرعاية. وتتساءل الجيلي في حوار معها: “ما الأشياء التي تهم أكثر عندما نواجه نهاية العالم؟” وتستذكر الأشياء التي كانت ستأخذها معها عند بدء الحرب: “كنت أريد أن آخذ الذكريات مهما كانت، مهما شابهت”. إلى جانب إبداعها الفني، تعتبر الجيلي بانية مجتمع، حيث أسست أستوديوهات “The Muse” وأرشيف الفن السوداني، وهي مبادرات تهدف إلى دعم الفنانين السودانيين والحفاظ على تراثهم الفني.

في الختام، يمثل هذا العدد الخاص من مجلة “ترانزيشن” دعوة عاجلة للاستيقاظ، ورسالة تضامن مع الشعب السوداني. إنه تذكير بأن الأزمة السودانية ليست مجرد صراع محلي، بل هي مأساة إنسانية تستحق اهتمامًا عالميًا. يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته ويتخذ خطوات فعالة لإنهاء العنف، وتقديم المساعدة الإنسانية، ودعم جهود السلام والمصالحة في السودان. شارك هذا المقال وساهم في إيصال صوت السودان إلى العالم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version