منذ أن تلفّظ الإنسان بكلمته الأولى، لم تعد اللغة أداة للتفاهم فقط، بل كانت المعجزة التي انتشلته من كهف الغريزة إلى فضاءات الفكر، ومن صمت الحيوات الأولى إلى سحر النطق والرمز والدلالة. لقد وُهبت الكائنات الحية وسائل شتى للتفاعل، لكن الإنسان وحده اختُصَّ باللغة، تلك التي حملته على أجنحة المعنى، وفتحت له أبواب التاريخ، ووهبته القدرة على صياغة الحكاية وبناء الحضارة. عملت اللغة كميراث حيّ، وكنز لا يُقدّر بثمن، وهوية تنقش بها الشعوب أسماءها على صفحة الزمن الخالد.

اللغة جسر خفيّ يربط الأرواح، ويعبر المسافات دون أن يَعرف الحواجز. بها نبوح ونشعر، نحلم ونبتكر، نؤرخ ونُخلّد. فهي ليست أداة للتعبير فحسب، بل هي الوعاء الذي يحمل الهويات، ويصوغ الذاكرة الجمعية، ويغذي العقل برحيق التراث. منذ فجر الإنسانية، سارت اللغة كتوأم للمدنية، ومحرّك خفيّ لمصائر الشعوب، وأساس لبناء نظمها الفكرية والاجتماعية.

وقد تنوّعت تعريفات المفكرين للغة، كلٌّ ينظر إليها من زاويته، لكنهم جميعاً اتفقوا على سموها ومركزيتها. أحد المفكرين «السوفييت» وصفها بأنها «مجموعة من العادات الصوتية المنظمة»، بينما رأى إدوارد سابير أنها «وسيلة إنسانية خالصة للتواصل من خلال رموز طوعية». هذه التعريفات، رغم تنوّعها، تكشف عن عمق اللغة وثرائها، وعن ارتباطها الوثيق بثقافة الإنسان وهمومه وفكره.

ولا غرابة أن يشبّه خالد الحسيني اللغة بالمفتاح الذي يفتح أبواب الثقافة، قائلاً: «إذا كانت الثقافة منزلاً، فإن اللغة هي المفتاح للباب الأمامي ولجميع الغرف في الداخل». أجل، فليس ثمة طريق إلى قلب ثقافةٍ ما إلا عبر لغتها. فهي المرآة التي تنعكس فيها القيم والعادات والتصورات، والمفتاح الذي يفتح مغاليق العقول والقلوب. لذا، فإن أولى خطوات علماء الأنثروبولوجيا لفهم شعبٍ ما تبدأ من لغته، لأنها تحمل في نسيجها نبض تاريخه وروح وجوده.

كلّ لغة تحمل فرادتها، كما تحمل سمات منفتحة على المشترك الإنساني. تنفرد لهجات الشعوب بإيقاعها ونبرتها وروحها، لكنها تتلاقى في قدرتها على التعبير عن الكينونة الإنسانية. وبينما تتشابه بعض اللغات في بنياتها النحوية أو الصوتية، تبقى لكل لغة نكهتها، وجمالها، وظلالها الخاصة التي لا تُستنسخ.

واللغة ليست انعكاساً للهوية الثقافية فقط، بل سجلّاً حيّاً لتاريخ الإنسان وتحولاته. كلماتنا اليوم ما هي إلا بقايا قرون، وأصداء عصور، وحكايات أُممٍ طواها الزمن. انظر إلى الصينية، وستسمع همسات آلاف السنين. أنصت إلى العربية، فتنهال عليك كنوز من الدين والشعر والعلم والمعرفة… إنها لغةٌ تحمل أمة بأسرها في حروفها، وتمضي بها في أودية الروح والفكر.

والفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات لا يكمن في العقل وحده، بل في هذه اللغة متعددة الطبقات، القادرة على التجريد والتأويل والتخيل. الحيتان تصفر، والنحل يرقص، لكن الإنسان وحده من يجعل من الحرف بيتاً، ومن الكلمة وطناً، ومن الجملة قنطرة بينه وبين أسرار الوجود.

ولولا اللغة لما كانت حضارة، ولا تراكم للمعرفة، ولا علوم تتناسل، ولا فنون تزدهر. في عصور ما قبل اللغة، كان الإنسان محاصراً بإشاراته الغريزية، مقيداً بجسده، لا يملك سوى صمتٍ لا يروي ولا يُدوّن. ثم جاءت اللغة، فانطلقت المعرفة من قيودها، وتسللت من الفم إلى القلم، ومن الجسد إلى الفكر، ومن الهمس إلى صخب الإبداع.

إن اللغة هي البذرة الأولى لكل تعلّم. الطفل لا يبني وعيه إلا حين يتقن لغته، ومن خلالها يرى العالم ويعيد تشكيله. وكلما اتسعت مفرداته، اتسعت آفاق إدراكه. أما الشاعر والأديب، فهما الحارسان الأبديان لنبض اللغة، يطوّعانها لتكون مرآة لخيالهما، وصدى لأحلام البشر جميعاً. وعلى الرغم من أن اللغات الحيّة في العالم تجاوزت السبعة آلاف، إلا أن كل لغة هي نهر، وكل كلمة هي نقطة ماء تسقي أرض الإنسانية. وما من لغةٍ يُنطق بها إلا وتحمل بين طياتها شعوراً بالألفة، حين تلتقي بمن يشاركك إيّاها، فتنقشع الغربة، وتولد بينكما صداقة خفية، وصوت دافئ ينتمي إلى عمق الذاكرة.

وفي النهاية، تبقى اللغة تجربة إنسانية فريدة، تجمع بين التعبير والتأمل، بين الحنين والتاريخ، بين الحقيقة والحلم. هي مرآة الوجود الإنساني، ومجسّ الحضارة، ووسيلة الدين، وصوت العقل، وهمس القلب. وإذا كانت الحضارات تُقاس بمنجزاتها، فإن أعظم منجزاتها هي لغاتها.

فليكن اعتناؤنا باللغة اعتناءً بالهوية، وحفاظنا عليها حفاظاً على جوهرنا. وستبقى اللغة، ما بقي الإنسان، نغمةً لا تنتهي، وقصيدةً لا تموت، ورسالةً أبدية تُهمَس في أذن الزمن.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version