بعد مقتل 70 ألفا وإصابة عدد هائل من الأشخاص وتشريد مئات الآلاف ودمار مناطق بأكملها، باتت إعادة إعمار غزة مهمة تستعصي على التصور وتقترب من حدود الخيال. لكن وسط هذا الدمار الشامل، يبرز سعي محموم للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، ليس فقط من خلال إعادة بناء المنازل، بل من خلال ترميم المعالم التاريخية والثقافية التي تعرضت لأضرار بالغة. هذا المقال يسلط الضوء على الجهود المبذولة لإنقاذ التراث الفلسطيني في غزة، والتحديات التي تواجه هذه المهمة الحيوية.

حجم الدمار وأهمية الحفاظ على التراث في غزة

إن حجم الدمار في قطاع غزة يفوق الوصف. فبالإضافة إلى الخسائر البشرية الفادحة، تعرضت البنية التحتية والمواقع التاريخية للقصف والتدمير. هذا التدمير ليس مجرد خسارة مادية، بل هو محاولة لمحو الهوية الفلسطينية وتاريخها العريق. لذا، فإن إعادة إعمار غزة لا تقتصر على إعادة بناء المباني، بل تشمل أيضاً الحفاظ على التراث الثقافي الذي يربط الفلسطينيين بجذورهم.

المسجد العمري الكبير: رمز غزة المتضرر

من بين المواقع الأكثر تضرراً المسجد العمري الكبير في مدينة غزة القديمة، وهو أحد أهم المعالم الثقافية في القطاع. القوات الإسرائيلية قصفت المسجد مدعية وجود نفق تحت ساحاته يستخدم من قبل المقاتلين، وهو ما ينفيه الفلسطينيون بشدة. يعتبر المسجد العمري الكبير رابطاً أساسياً لأهالي غزة بتراثهم الثقافي الغني، حيث يمثل تاريخاً يمتد لقرون، بدءاً من الحكايات التقليدية عن هدم شمشون لمعبد خاطفيه، مروراً بالكنيسة البيزنطية، وصولاً إلى تحويله إلى مسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.

جهود الترميم والتحديات التي تواجهها

مهندسون معماريون وخبراء تراث، مثل حمودة الدهدار، يعملون الآن داخل غزة في محاولة لإنقاذ المواقع المتضررة. الدهدار يؤكد أن تدمير هذه المباني لن يمحو التاريخ الفلسطيني، بل هي ذاكرة جماعية يجب الحفاظ عليها. ومع ذلك، تواجه جهود الترميم تحديات كبيرة، بما في ذلك نقص المواد الأساسية مثل الأسمنت الأبيض والجبس، وارتفاع أسعار مواد الحفر والترميم بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع الأمني ​​المتردي يعيق الوصول إلى بعض المواقع المتضررة.

قصر الباشا والمواقع التاريخية الأخرى

لم يقتصر الدمار على المسجد العمري الكبير، بل طال أيضاً قصر الباشا، وهو معلم تاريخي يعود إلى القرن الثالث عشر، والذي كان يضم متحفاً فقدت كنوزه. هذا الدمار يسبب ألماً خاصاً للفلسطينيين، حتى بين العائلات الثكلى التي فقدت منازلها ومصادر رزقها. فكل حجر في هذه المواقع يروي قصة، وكل معلم تاريخي يمثل جزءاً من الهوية الفلسطينية. الحفاظ على التراث الفلسطيني هو بمثابة الحفاظ على الذاكرة الجماعية.

ردود الفعل الإسرائيلية وخطط إعادة الإعمار

يدعي الجيش الإسرائيلي أن أي قصف يستهدف أهدافاً لحركة حماس يخضع لعملية موافقة صارمة، وأنهم يتعاملون مع مواقع التراث الثقافي بأقصى درجات الحساسية. ومع ذلك، يرى الفلسطينيون أن هذه التصريحات لا تعكس الواقع على الأرض، وأن إسرائيل تتعمد استهداف التراث الديني والثقافي للقطاع.

وفي هذا السياق، يعد المسؤولون الفلسطينيون ومنظمة اليونسكو خطة من 3 مراحل لإعادة ترميم المواقع التاريخية بتكاليف أولية تقدر بـ 133 مليون دولار. وستركز الخطة على التدخل السريع لدعم الهياكل المعرضة للانهيار، مع الأخذ في الاعتبار التحديات اللوجستية والمادية التي تواجه عملية إعادة إعمار غزة.

ألم الفقدان وأمل المستقبل

إن دمار المعالم الثقافية في غزة يسبب ألماً عميقاً للفلسطينيين، الذين يرون في هذه المواقع جزءاً لا يتجزأ من هويتهم وتاريخهم. منذر أبو عاصي، أحد سكان غزة، يروي كيف وجد نفسه يواسي طفلته الصغيرة كنزي بسبب حزنها بعد أن علمت بنبأ تعرض المسجد العمري الكبير للقصف. هذا الألم يعكس شعوراً عميقاً بالفقدان والخوف من محو الهوية الفلسطينية.

ومع ذلك، وسط هذا الألم، يظل الأمل موجوداً. فالفلسطينيون مصممون على إعادة بناء غزة والحفاظ على تراثهم الثقافي، رغم التحديات الهائلة التي تواجههم. إن إعادة إعمار غزة ليست مجرد عملية بناء، بل هي عملية استعادة للذاكرة والهوية والأمل في مستقبل أفضل. إن دعم المجتمع الدولي لهذه الجهود أمر ضروري لضمان الحفاظ على التراث الفلسطيني للأجيال القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version