واشنطن – كان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن طوال حياته السياسية كثير الاستشهاد في خطاباته وتصريحاته بالشعراء الأيرلنديين وعلى رأسهم شيمس هيني (1939-2013)، خاصة عندما يكون موضوع الحديث متصلا بتحديات كبرى أو بأحداث مؤلمة من الحاضر أو الماضي.

وبعد عام على رحيل هيني، لم يضيع بايدن الفرصة وهو يخاطب أكثر من 3 آلاف مشارك في منتدى دولي حول المستقبل بمدينة مراكش بالمغرب، للاستشهاد بشاعره المفضل وتحديدا بأبيات من قصيدة له عن “تناغم الأمل والتاريخ”.

وانبرى بايدن في تلك المدينة المغربية العريقة للدفاع عن شغفه بشعراء ذلك البلد الأوربي قائلا: “لطالما سخروا مني لأنني دائما ما أقتبس من الشعراء الأيرلنديين. يظنون أنني أفعل ذلك لأني أيرلندي. ليس هذا هو السبب. أفعل ذلك لأنهم أفضل شعراء العالم”.

وفعلا، فقد تحول هوس الرئيس بايدن بالشعراء الأيرلنديين إلى موضوع للسخرية والتندر في محيطه السياسي والإعلامي والعائلي وأصبح المكلفون بكتابة خطبه يستبقون الأمر في بعض الأحيان ويطعّمون خطاباته بأبيات شعرية لهذا الشاعر الأيرلندي أو ذاك.

وفي حفل في البيت الأبيض، كان الرئيس باراك أوباما يلقي كلمة بمناسبة منح جو بايدن وسام الحرية، وقال مازحا إنه سيستشهد بأبيات للشاعر الأيرلندي وليام بتلر ييتس (1865-1939) لأنه يعرف أن شيمس هيني من اختصاص بايدن.

وعندما أخد بايدن الكلمة لم يخيب توقعات الحاضرين الذين كانوا يتطلعون إلى استشهاده بشاعره المفضل شيمس هيني، ولم يجد بدا من تحديهم بطريقة لطيفة قائلا “إذا كان لديكم من يعبر بشكل أحسن عما أريد قوله، فأتوا به”.

أما المفاجئ في تلك المناسبة فهو أن بايدن لم يستحضر أبياته المفضلة عن “الأمل والتاريخ” ولكن اختار في معرض إشادته بتواضع أوباما أبياتا من قصيدة بعنوان “من جمهورية الضمير” جاء فيها: لقد حملت عبئك الخاص وسرعان ما تلاشت عنك مظاهر الامتياز الطاغي.

وقبل ذلك بسنوات، علقت آشلي بايدن على قرار باراك أوباما تعيين والدها لمنصب نائب الرئيس، قائلة إن “أبي هذا هو الأمل والتاريخ”، فرد عليها بايدن بالروح الساخرة نفسها: “رائع. هو (أوباما) الأمل، وأنا التاريخ”.

ومثّل ذلك البيت زبدة قصيدة بعنوان “العلاج في طروادة” نظمها شيمس هيني عام 1991 على خلفية الصراع السياسي والمذهبي في أيرلندا والذي تحول إلى مسلسل طويل من العنف المسلح.

The Cure at Troy by Seamus Heaney | Joe Biden for President 2020

يقول التاريخ: لا تأملوا

على هذا الجانب من القبر..

ولكن، مرة واحدة في العمر

يمكن أن تتحقق العدالة التي طال انتظارها،

ويتناغم الأمل والتاريخ.

ومن فرط إعجابه بها، سجّل بايدن تلك القصيدة بصوته ونشرها على أكثر من منصة رقمية بينها يوتيوب وحصدت مئات آلاف المشاهدات، وهو رقم محترم من وجهة نظر ثقافية صرفة، ولا تصح مقارنته بملايين المشاهدات لفيديوهات بايدن وهو يسقط من فوق دراجته أو يتعثر في هذا الملتقى أو ذاك.

وظل بايدن يستشهد بأبيات من تلك القصيدة في كل مناسبة يكون موضوعها عن تحديات الحاضر أو المستقبل في هذا السياق أو ذلك، أو عن مشاعر الانتقام وحلم العدالة، والحاجة إلى الأمل.

وفي تعليقه على مضامين تلك القصيدة ومعانيها، قال بايدن مرات عدة إن تلك الأفكار تنعكس في “مشاعر وقلوب الغالبية العظمى من الشعب الأميركي”.

وتجد تلك الأبيات صدى كبيرا في حياة بايدن الشخصية والسياسية، إذ إن الرجل عاش لحظات صعبة عندما توفيت زوجته الشابة وابنته في حادث سير عام 1972، وخطف السرطان ابنه بُو عام 2015 بعد صراع طويل معه.

وعلى الصعيد السياسي، فإن حلمه بدخول البيت الأبيض لم يتحقق له إلا عام 2020 وهو على مشارف الثمانين حولا رغم أنه خاض سباق الرئاسة مرات عديدة وكان متفرغا بالكامل للعمل السياسي منذ أن انتخب للكونغرس عام 1972 وهو في سن الـ29.

وتعود علاقة بايدن بالشعراء الأيرلنديين إلى مرحلة مبكرة من حياته، ففي سن المراهقة كان يحفظ عن ظهر قلب أبياتا من أشعار وليام بتلر ييتس (نوبل 1923) وهو يحاول التغلب على التأتأة (التلعثم)، إذ كان يقف أمام المرآة ويردد تلك الأبيات وغيرها، محاولا ألّا تتشنج عضلات وجهه.

ويعتبر شيمس هيني ووليام بتلر ييتس من أكبر الشعراء الأيرلنديين على الإطلاق وهما ضمن 4 كتّاب من ذلك البلد الأوروبي حصلوا على جائزة نوبل للآداب منهم صامويل بيكيت (1969) وجورج برنادر شو (1925).

وإذا بحثنا في علاقات بعض الرؤساء الأميركيين بالشعر، فإن بايدن لم يكن أول المعجبين بالشعراء الأيرلنديين. فقد كان سلفه الديمقراطي بيل كلينتون المعروف بثقافته الواسعة، خاصة في مجال التاريخ، من المعجبين أيضا بالشعر الأيرلندي.

وخلال زيارته إلى أيرلندا الشمالية عام 1995 بعد أسابيع قليلة على فوز هيني بجائزة نوبل، لم يجد كلينتون بدا من الاستشهاد ببيت “الأمل والتاريخ”، في معرض جهوده لتحقيق السلم في البلاد.

وقال كلينتون لمخاطبيه الأيرلنديين: “لا أستطيع أن أقول ذلك بشكل أفضل مما قاله شاعركم الحائز جائزة نوبل، شيمس هيني: نحن نعيش في لحظة يتناغم فيها الأمل والتاريخ”.

وفي عام 2013 كتب بيل كلينتون وزوجته هيلاري في نعي الشاعر الراحل: “إن عقله وقلبه وموهبته اللغوية الفريدة جعلته شاعرنا الأبرز في إيقاعات الحياة اليومية، وصوتا قويا من أجل السلام. وكان صديقا عزيزا ووفيا. لقد أحببناه وسنفتقده”.

وفي المناسبة نفسها قال عنه ناشر مؤلفاته في لندن إنه “أحد أعظم كُتّاب العالم وإن أثره في الثقافة الأدبية لا يُمكن حصره”.

وقبل كلينتون وبايدن بعقود طويلة، كان على رأس البيت الأبيض رئيس ذو أصل أيرلندي بدوره هو جون ف. كينيدي الذي كان معروفا بأن قارئ نهم ومتذوق للشعر ومتميز في إلقائه.

وعندما زار أرضي أجداده في يونيو/حزيران عام 1963 لم تخل رحلته من روح شعرية واستشهد في خاتمة كلمته أمام البرلمان بشاعر “أيرلندي عظيم” لم يسمه فقال “إنني أؤمن إيمانا عميقا بمستقبل أيرلندا… وأن هذه الجزيرة هي جزيرة القدر، وأن هذا القدر سيكون مجيدا… وأنه عندما تأتي ساعتنا، سيكون لدينا ما نقدمه للعالم”.

وتعليقا على تلك الزيارة التاريخية، قال جون كينيدي إنها “أفضل 4 أيام في حياتي”. وبعد ذلك بأشهر قليلة، حانت ساعته وكتب له القدر نهاية بطعم التراجيديا على بعد آلاف الأميال من أرض أسلافه.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version