خلف المقوَد أجلس، وعلى يميني يجلس والدي مسترخياً، مبتسماً، عيناه تمتلئان، تنظران للأمام بحسرة، وبدموع مخلصة لتقاليد الرجال. كنت أشاهده وأحاول أثناءها التقاط الشيء الذي لمس مشاعره لتلك الدرجة، التي أحالته إلى هذه الصورة الغامضة؛ حيث لا شيء أمامه سوى مبنى الفندق الذي ستخرج منه أمي وشقيقتي بعد قليل، ونفر من الناس يدخلون ويخرجون. ألقي نظرة موجزة للأمام لأتحقق، ليس هناك أدنى مشهد يدعو إلى وقفة متأنية، أعود بالنظر إليه سريعاً، لم تزل حلّته الأولى كما هي، أردت سؤاله، وأردت عدم الانشغال أيضاً. إلّا أن سلوك شقيقتي المختلّ منذ بداية اليوم بسبب ارتدائها الحجاب الشرعي كارهة؛ كان وسيلة لإعادته من تلك الحالة العاطفية إلى نفسه قليلاً، حين فتحت الباب الخلفي بقوة وصعدت إلى السيارة كما يصعد النساء المضطهدات في العادة. لكنّ عينيه اللتين كانتا قد استوفتا حاجتهما الماسّة لمجاراة الجفاف، استقرّتا على سواد قاتم كان يزرقّ فجأة بانعكاس الشمس عليه، وهو يشاهد بصمت عباءة والدتي أثناء قدومها تلتفّ من الأسفل للأعلى حول ساقيها نتيجة الرياح الشديدة؛ لتستعيد بذلك نفسه طبيعتها الثائرة التي ظلّت تعيش في سبيل حماية أهل بيته من الكلمات المتجاوزة والنظرات الخاطفة. كانت أمي تمشي نحونا متعبة، مصابة بالفتور، وبزوج وابن كسولين، لم يحاول أحدنا أدنى تفكير في الترجل والتخفيف عنها حملها الثقيل، الذي لا يقتصر على حقيبة واحدة فقط، فمنذ دخولها الشهر الأول من حملها وهي تدعو قياماً وقعوداً أن تضعه ذكراً استجابةً لإمكانات والديّ الحالية؛ فهما لم يعودا شابين قويين، وليسا مؤهلين لتربية ابنتهما إذا ما ولدتها أنثى، أما لو كان ذكراً فأنا هنا، وهما أيضاً لن يبخلا بما يستطيعانه. هكذا ألقى كلمته علينا عند تلقينا الخبر السعيد على طاولة الطعام. نزل أخيراً بعد غضب وتردد شديدين لمساعدة زوجته وحمل الحقيبة عنها، ثمّ رحت أنا خلفه مباشرة لأنتزع فرصة إشباع فضولي، شاركته رفع الحقيبة بجهد متكلف بعض الشيء؛ لأقوم بسؤاله بنبرة عابرة مظهراً عدم اهتمامي لإجابته التي ستكون؛ وهذا لكي أعرف حقيقة كل ذلك الغياب وكل تلك الدموع، هذه حيلة كنت ألجأ إلى استخدامها في كل مرة أحتاج فيها إلى معرفة حقيقة ما؛ إذ إن أبي والرجال الذين يشبهونه، عند رغبتك في معرفة حقيقة أي أمر عاطفيّ يخصّهم؛ يجب عليك أن تظهر لهم عدم اهتمامك بمعرفة تلك الحقيقة. وهكذا يغردون كتغريد البلابل في الليل. تماماً كما حدث منذ قليل، عندما سألته: «رأيتك متأثراً أثناء الانتظار، ماذا كان؟!» أجاب بابتهاج وابتسامة صادقة، بعدما مددته بطاقات هائلة من الأمان، شعرت بها في ريح نسماته المتناغمة حين همس لي وهو يتلفّت يميناً وشمالاً: تلك الأثناء، كانت قد دخلت إلى الفندق امرأة شقراء فاتنة جداً، كأنها الشمس عند مطلعها… هل رأيتها؟!
أخبار ذات صلة