احتجاجات المتقاعدين في فرنسا تتصاعد رفضًا لميزانية 2026 والإصلاحات الاجتماعية
شهدت فرنسا، في الأيام القليلة الماضية، موجة من الاحتجاجات الحاشدة قادها المتقاعدون، بدعوة من كبرى النقابات العمالية، تعبيرًا عن رفضهم لمشروع ميزانية الحكومة لعام 2026، ومشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي. هذه التحركات تأتي في ظل مخاوف متزايدة بشأن تدهور الأوضاع المعيشية للمتقاعدين، وتأثير الإجراءات الاقتصادية المقترحة على قدرتهم الشرائية. وتتصاعد حدة الغضب مع إحساس عميق بأن المتقاعدين يُنظر إليهم كخزان مالي يُستنزف، بدلًا من مواطنين لهم حقوق كاملة.
دوافع الاحتجاجات: غضب المتقاعدين من سياسات التقشف
لم تكن الاحتجاجات الفرنسية مفاجئة، بل هي تتويج لتراكمات قلق وخيبة أمل لدى فئة المتقاعدين. على الرغم من تصريحات رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو الأسبوع الماضي بشأن التخلي عن تجميد المعاشات التقاعدية، إلا أن التهديد لا يزال قائمًا. كما يثير الغموض حول تمويل تعليق إصلاح نظام المعاشات التقاعدية قلقًا بالغًا، خاصة وأن التكلفة المتوقعة تصل إلى مليارات اليورو في السنوات القادمة.
“السنة البيضاء” وتأثيرها المدمر
من بين البنود الأكثر إثارة للقلق في مشروع الميزانية، مسألة ما يُعرف بـ “السنة البيضاء”، والتي تعني تجميد الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والمعاشات التقاعدية عند مستوى عام 2025. هذا التجميد يترجم إلى انخفاض حقيقي في القيمة الحقيقية للدخل، ويؤثر بشكل مباشر على مستوى معيشة المتقاعدين.
ترتبط هذه الإجراءات بخطط الحكومة للحد من العجز العام، الذي ارتفع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. بعبارة أخرى، تسعى الحكومة إلى تحقيق التوازن المالي على حساب الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، بما في ذلك المتقاعدين.
تفاصيل مقلقة في مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي
كشف مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي الذي عُرض مؤخرًا عن أن إجراءات التقشف قد تستمر لفترة أطول مما كان متوقعًا. فالحكومة الجديدة تعتزم مطالبة المتقاعدين بدفع مساهمات حتى عام 2030، مما يُزيد من الضغط المالي عليهم.
وفقًا لتقارير حديثة، بلغ عدد المستفيدين من معاشات التقاعد المباشرة في فرنسا 17.2 مليون شخص في نهاية عام 2023، بزيادة قدرها 1.3% مقارنة بالعام السابق. هذا الرقم يؤكد أهمية هذه الفئة في المجتمع، والحاجة إلى حماية حقوقها ومصالحها.
أصوات المتقاعدين: “لسنا أبقارا حلوبا”
عبّر المتقاعدون، خلال المظاهرات، عن غضبهم واستيائهم من السياسات الحكومية. الأمينة العامة للاتحاد العام للعمال “سي جي تي”، أشارت إلى أن المتقاعدين “لا يملكون ثروات طائلة”، وأن تصريحات الحكومة “بعيدة كل البعد عن الواقع”.
وأضافت أن التأثير الأكبر لهذه الإجراءات سيكون على أفقر المتقاعدين، وأن الحكومة تسعى إلى نهب جيوبهم. المتظاهرون رفعوا لافتات وشعارات تعبر عن رفضهم للاستغلال، وطالبوا برفع المعاشات التقاعدية.
المتقاعدة آنيك، عبّرت عن قلقها من فرض المزيد من الضرائب، مؤكدة أن المتقاعدين هم المتضررون دائمًا. وأضافت أنها قد تضطر إلى فقدان بطاقة معاشها التقاعدي، إذا تم فرض ضريبة إضافية.
توزيع الأعباء والعدالة الضريبية: مطالب رئيسية للمتقاعدين
تشكل النساء أغلبية المتقاعدين في فرنسا، حيث يمثلن 53% من المستفيدين المباشرين من المعاش التقاعدي. متوسط المعاش التقاعدي للنساء يبلغ 1666 يورو شهريًا. وبسبب ارتفاع متوسط سن التقاعد، الذي وصل إلى 62 عامًا و9 أشهر، يواجه المتقاعدون صعوبات متزايدة في الحفاظ على مستوى معيشة لائق.
المطالب الرئيسية للمتقاعدين تتضمن إعادة تفعيل مبدأ التضخم في حساب المعاشات، والحفاظ على الخدمات العمومية الضرورية، وفرض العدالة الضريبية. إنهم يرفضون أن يكونوا ضحايا لرفع الرسوم والضرائب، بينما تبقى الثروات الكبيرة بمنأى عن ضغط الميزانية. المتقاعدون يطالبون بمعاملة عادلة تعكس مساهماتهم السابقة في المجتمع.
مستقبل الاحتجاجات: حوار أم تصعيد؟
يتوقع مراقبون أن تحاول الحكومة الفرنسية فتح حوار سياسي مع ممثلي المتقاعدين، بهدف تعديل بعض بنود مشروع الميزانية أو تأجيلها. ومع ذلك، يرى آخرون أن مواصلة تشريع القوانين رغم الاحتجاجات قد يكون السيناريو الأرجح، مما قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد.
الوضع الحالي يشير إلى أن مستقبل الاحتجاجات في فرنسا غير واضح، وأن الحكومة تواجه تحديًا كبيرًا في إيجاد حلول ترضي جميع الأطراف. تغيير سياسات التقاعد يتطلب حواراً شاملاً وشفافاً، مع الأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف المعنية. من الضروري أن تُعامل فئة المتقاعدين باحترام وتقدير، وأن تُصان حقوقهم ومصالحهم.



