في السنوات الأخيرة، شهد قطاع الطاقة العالمي تحولات كبيرة، مدفوعة بالبحث عن مصادر طاقة أكثر استدامة وأمانًا. وفي هذا السياق، تبرز الطاقة النووية كخيار واعد، خاصة مع التطورات التكنولوجية المتسارعة. تشير التقارير الأخيرة إلى أن الصين تتجه نحو توسع نووي غير مسبوق، مما يضعها في موقع ريادي في هذا المجال. هذا التوسع ليس مجرد زيادة في عدد المفاعلات، بل هو تحول استراتيجي يشمل توحيد التصاميم، والإنتاج على نطاق واسع، وتطوير تقنيات متقدمة.
خطط الصين الطموحة للتوسع النووي
كشفت منصة “إنفستنغ دوت كوم” عن توقعات خبراء الصناعة بأن الصين قد تُصدّق على ما بين 10 إلى 15 مفاعلاً نووياً جديداً سنوياً خلال الفترة من 2026 إلى 2030. هذا الرقم يعكس طموحاً كبيراً، ويضع الصين في صدارة الدول المستثمرة في الطاقة النووية. الهدف من هذا التوسع هو تلبية الطلب المتزايد على الطاقة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتحقيق أهداف الاستدامة البيئية.
هيمنة “هوا لونغ وان” وتوحيد التصاميم
من الملاحظ أن مفاعل “هوا لونغ وان” سيلعب دوراً محورياً في هذا التوسع، حيث من المتوقع أن يستحوذ على حوالي 80% من مشاريع البناء الجديدة. هذا التوجه نحو توحيد التصاميم يهدف إلى تبسيط عملية البناء، وخفض التكاليف، وتحسين الكفاءة. بالإضافة إلى ذلك، سيتم استخدام عدد محدود من وحدات “كاب 1400” وتصاميم “ڤي ڤي إي آر” الروسية، ولكن بنطاق محدود. هذا التركيز على تصميم واحد رئيسي يمثل استراتيجية واضحة لتبسيط سلسلة الإمداد وتسريع عملية التنفيذ.
التحديات الجغرافية والقيود التنظيمية
على الرغم من أن اللوائح الصينية للسلامة لا تزال تفرض قيوداً على المواقع الداخلية، يؤكد الخبراء أن هذا لا يمثل عائقاً كبيراً أمام التوسع. فالصين قادرة على تنفيذ خططها في مختلف المناطق الساحلية، مما يتيح لها الاستفادة من الموارد المائية اللازمة لتبريد المفاعلات. هذا المرونة الجغرافية تعزز من قدرة الصين على تحقيق أهدافها في مجال الطاقة النووية.
المفاعلات المعيارية الصغيرة والتقنيات المتقدمة
لا يقتصر التوسع النووي في الصين على المفاعلات التقليدية، بل يشمل أيضاً تطوير المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs). مشروعات مثل “لينغلونغ وان” والتصاميم عالية الحرارة المبردة بالغاز والملح المصهور لا تزال في مرحلة التطوير، ولكنها تحمل وعوداً كبيرة. هذه المفاعلات الصغيرة تتميز بمرونتها وقدرتها على التكيف مع احتياجات الطاقة المختلفة، مما يجعلها خياراً جذاباً للعديد من الدول.
تحديات التصنيع والتكلفة
نجاح المفاعلات المعيارية الصغيرة يتطلب تصنيعاً معيارياً داخل المصانع لخفض التكاليف. ومع ذلك، لا تزال سلاسل الإمداد غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد. الخبراء يرون أن الطلب المحلي موجود، ولكن الفرص الأكبر تكمن في الأسواق الخارجية، خاصة في الدول ذات الشبكات الكهربائية الضعيفة. هذه الدول يمكن أن تستفيد بشكل كبير من المفاعلات الصغيرة لتوفير طاقة موثوقة ومستدامة.
مستقبل الطاقة النووية: الاندماج النووي وتخفيض التكاليف
بالإضافة إلى التوسع في مجال الانشطار النووي، تعمل الصين أيضاً على تطوير تقنية الاندماج النووي. من خلال برنامجين رئيسيين في مدينتي خفي وشنغهاي، تتوقع الصين إنفاق ما بين 10 إلى 20 مليار يوان (1.4 مليار دولار – 2.8 مليار دولار) خلال ثلاث إلى أربع سنوات لنقل تطوير الاندماج النووي من البحث إلى الهندسة. الهدف هو تحقيق اختراق هندسي يسمح ببناء أول نموذج متكامل خلال 3 إلى 5 سنوات. هذا الاستثمار الضخم يعكس التزام الصين بأن تصبح رائدة في مجال الطاقة النووية المتقدمة.
انخفاض تعرفة الكهرباء وتأثير التمويل
من المتوقع أن تنخفض تعرفة الكهرباء النووية مع دخول قدر أكبر من الإنتاج إلى السوق. يعزى ذلك إلى تكلفة التشغيل المنخفضة للمفاعلات واستقرار إمدادات الوقود. ومع ذلك، تمثل تكاليف التمويل العامل الأكثر تأثيراً على العائدات. الوقود يشكل أقل من 15% من التكلفة الإجمالية، وتنويع مصادره يساعد في الحد من التقلبات. هذا التركيز على خفض التكاليف وتحسين الكفاءة يعزز من جاذبية الطاقة النووية كمصدر للطاقة المستدامة.
التحديات الجيوسياسية والتوطين الصناعي
وصل التوطين الصناعي في قطاع المحطات النووية في الصين إلى 80-90%. ومع ذلك، لا يزال التصدير على نطاق واسع صعباً بسبب الحساسية الجيوسياسية وحاجة المشاريع النووية إلى تنسيق مباشر بين الحكومات. هذا التحدي يتطلب جهوداً دبلوماسية وتعاوناً دولياً لتعزيز الثقة وتسهيل التجارة في مجال الطاقة النووية. الطاقة النووية تمثل فرصة كبيرة للصين لتعزيز مكانتها العالمية في مجال الطاقة، ولكنها تتطلب أيضاً معالجة التحديات الجيوسياسية والتنظيمية.
في الختام، يشكل التوسع النووي في الصين خطوة مهمة نحو مستقبل طاقة أكثر استدامة وأماناً. من خلال الاستثمار في التقنيات المتقدمة، وتوحيد التصاميم، وخفض التكاليف، تسعى الصين إلى أن تصبح رائدة عالمية في مجال الطاقة النووية. هذا التطور له آثار كبيرة على قطاع الطاقة العالمي، ويتطلب مراقبة دقيقة وتحليل مستمر. هل ستنجح الصين في تحقيق أهدافها الطموحة؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة.



