في خضم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان منذ عام 2019، أعلنت الحكومة عن مشروع قانون جديد يهدف إلى معالجة الفجوة المالية وإعادة الثقة بالنظام المصرفي. هذا القانون، الذي يركز بشكل أساسي على استرداد الودائع المجمدة، أثار جدلاً واسعاً، وتحديداً تحفظات حاكم مصرف لبنان المركزي، كريم سعيد. يمثل هذا المشروع خطوة حاسمة نحو التعافي الاقتصادي، لكن نجاحه يعتمد على معالجة المخاوف المطروحة وضمان عدالة التوزيع.
تفاصيل مشروع قانون استرداد الودائع
أعلن رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام عن طرح مشروع القانون هذا في نهاية الأسبوع الماضي، مؤكداً توافقه مع معايير صندوق النقد الدولي وأهميته في استعادة الثقة المفقودة. يُعرف هذا التشريع باسم “قانون معالجة الفجوة المالية”، وهو ضروري لإعادة هيكلة عبء الديون المتراكم على لبنان، والذي قُدر في عام 2022 بحوالي 70 مليار دولار، وهو رقم يُرجح خبراء أنه قد ازداد بشكل ملحوظ في السنوات اللاحقة.
يهدف القانون إلى تحديد آلية واضحة لتقاسم الخسائر بين مختلف الأطراف المعنية: الدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية، وبالطبع، المودعين. هذا التقاسم ضروري لمعالجة الخسائر الفادحة التي تكبدها القطاع المالي اللبناني.
آليات السداد المقترحة
ينص مشروع القانون على سداد ودائع المودعين الصغار، أي أولئك الذين تقل ودائعهم عن 100 ألف دولار، على أقساط شهرية أو ربع سنوية على مدى 4 سنوات. هذه الخطوة تهدف إلى تخفيف العبء على أكبر شريحة من المودعين، والذين يعانون بشكل خاص من تجميد أموالهم.
أما بالنسبة للودائع التي تتجاوز هذا السقف، فسيتم سدادها جزئياً من خلال أوراق مالية مدعومة بأصول يمتلكها مصرف لبنان. هذه الأوراق المالية ستحمل حدًا أدنى للعائد السنوي يبلغ 2%. تختلف آجال استحقاق هذه الأوراق المالية بناءً على حجم الودائع:
- 10 سنوات للودائع التي تصل إلى مليون دولار.
- 15 سنة للودائع التي تتراوح بين مليون و5 ملايين دولار.
- 20 سنة للودائع التي تتجاوز 5 ملايين دولار.
تعتمد هذه الشهادات على إيرادات وأرباح الأصول المملوكة للمصرف المركزي، بالإضافة إلى أي عائدات محتملة من بيع هذه الأصول.
تحفظات حاكم مصرف لبنان على قانون استرداد الودائع
على الرغم من أهمية مشروع القانون، أبدى حاكم مصرف لبنان المركزي، كريم سعيد، تحفظات على بعض جوانبه. أشار سعيد في بيان رسمي إلى أن “الجدول الزمني المقترح لسداد الجزء النقدي من الودائع يُعد طموحاً إلى حد ما”. هذا يعني أن الحاكم يرى أن الجدول الزمني قد يكون غير واقعي بالنظر إلى الوضع المالي الحالي للبلاد.
وأضاف أن مشروع القانون يمكن تعديله دون المساس بحقوق المودعين، بهدف ضمان انتظام المدفوعات واستمراريتها وإكمالها بشكل كامل على مدى الزمن. هذا التأكيد على حماية حقوق المودعين يمثل نقطة أساسية في أي خطة للتعافي الاقتصادي.
دعوة لمراجعة شاملة
أوصى حاكم مصرف لبنان بأن يقوم مجلس الوزراء بمراجعة دقيقة وشاملة وبناءة لمشروع القانون. تهدف هذه المراجعة إلى إدخال التحسينات والتعديلات اللازمة لضمان العدالة والمصداقية وقابلية التطبيق العملي. كما أكد على ضرورة أن يتضمن مشروع القانون مزيداً من التوضيح والتعزيز بالتزامات الدولة.
هذه الدعوة إلى المراجعة تعكس قلق الحاكم بشأن بعض التفاصيل الفنية والقانونية التي قد تؤثر على تنفيذ القانون وفعاليته. إن إشراك مصرف لبنان بشكل كامل في عملية المراجعة والتعديل أمر بالغ الأهمية لضمان نجاح هذه المبادرة.
الأزمة الاقتصادية اللبنانية: نظرة عامة
تعتبر الأزمة اللبنانية من بين أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفقاً لتصنيف المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي. وقد أدت إلى تجميد حسابات الدولار، وفرض قيود مشددة على السحوبات، وانهيار قيمة الليرة اللبنانية بأكثر من 95%.
تعود جذور هذه الأزمة إلى سياسات مالية غير مستدامة وهدر وفساد على مدى عقود. وقد تفاقمت الأوضاع بعد تخلف الدولة عن سداد ديونها السيادية وتراجع قيمة الليرة اللبنانية. إن معالجة هذه الأزمة تتطلب إصلاحات هيكلية شاملة، بالإضافة إلى خطة واضحة لـ إعادة الثقة بالقطاع المصرفي و استرداد الودائع المجمدة.
مستقبل استرداد الودائع في لبنان
يمثل مشروع قانون استرداد الودائع خطوة أولى نحو حل الأزمة المالية في لبنان، لكنه ليس الحل الوحيد. يتطلب التعافي الاقتصادي المستدام إصلاحات شاملة في القطاع العام، ومكافحة الفساد، وتحفيز الاستثمار، وتنويع مصادر الدخل.
من الضروري أن يتم التعامل مع تحفظات حاكم مصرف لبنان بجدية، وأن يتم إشراك جميع الأطراف المعنية في عملية المراجعة والتعديل. إن ضمان عدالة التوزيع وشفافية الإجراءات أمر بالغ الأهمية لاستعادة ثقة المودعين والمستثمرين. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك التزام واضح من الدولة بتنفيذ الإصلاحات اللازمة وتحمل مسؤولياتها في معالجة الأزمة.
في النهاية، يعتمد مستقبل استرداد الودائع في لبنان على الإرادة السياسية والتعاون بين جميع الأطراف المعنية. إن نجاح هذا المشروع سيمثل نقطة تحول في تاريخ لبنان، وسيفتح الباب أمام مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. لمزيد من المعلومات حول الوضع الاقتصادي في لبنان، يمكنكم زيارة موقع البنك المركزي اللبناني.


