في تطور لافت، أعادت سلسلة من العمليات المشتركة بين مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي “إف بي آي” والسلطات الغانية تسليط الضوء على تدفقات الأموال غير المشروعة داخل البلاد، وأعادت إلى الواجهة مطالبات بتشريع قانون لتدقيق نمط حياة المسؤولين والأثرياء، في محاولة لكبح الفساد المستشري.
فقد أسفرت التحقيقات الأخيرة عن مصادرة سيارات فارهة ومنازل في العاصمة أكرا، بعد الكشف عن تحويل عائدات جرائم إلكترونية واحتيال إلى مظاهر ترف وبذخ.
ومن أبرز القضايا التي أثارت الرأي العام، إدانة المغنية ومؤثرة مواقع التواصل الاجتماعي “مونا فايز مونتراج” المعروفة باسم “Hajia4Reall”، بالسجن لمدة عام في الولايات المتحدة بعد اعترافها بتورطها في عملية احتيال عاطفي بقيمة مليوني دولار.
كما تم تسليم 3 مواطنين غانيين للولايات المتحدة بتهم إدارة شبكة احتيال عاطفي استولت على أكثر من 100 مليون دولار بين عامي 2016 و2023.
وبحسب تقرير نشره موقع “أفريكا روبورت” فإن هذه القضايا كشفت عن “ثغرة تشريعية” في منظومة مكافحة الفساد في غانا، تتمثل في غياب قانون يلزم المسؤولين بتبرير مصادر ثرواتهم، وهو ما دفع رئيس البرلمان ألبان باغبين إلى الإعلان عن إعداد مشروع قانون يمنح المؤسسات صلاحيات للتحقيق في الثروات غير المبررة، سواء تعلّق الأمر بمسؤولين حكوميين أو شخصيات نافذة في القطاع الخاص.
“عبء الإثبات” على صاحب الثروة
اقترح المدعي العام الخاص كيسي أجييبينغ اعتماد مبدأ “العبء العكسي”، أي أن يُطلب من الفرد إثبات أن ممتلكاته تم الحصول عليها بطرق مشروعة، وإلا تُصادر.
ويؤكد أن “التحقيقات والمحاكمات بطيئة ومكلفة، وغالبا ما تكون غير مثمرة بسبب تعقيدات إخفاء الثروة”، داعيا إلى إصلاحات دستورية تتيح استرداد الأصول دون الحاجة إلى إدانة جنائية.
لكن المقترح لم يمر دون انتقادات. فقد اعتبر النائب المعارض نانا أجايي بوفور أوواه أن “القوانين الحالية كافية”، مشيرا إلى أن مركز الاستخبارات المالية قام مؤخرا بتجميد حسابات مصرفية مشبوهة، مما يدل على أن “تدقيق نمط الحياة يحدث بالفعل ضمن الإطار القانوني القائم”.
من جهتها، حذّرت المحامية كلارا كاسر-تي من أن القانون المقترح “لن يطال الفاسدين الحقيقيين” الذين يخفون أموالهم في ملاذات ضريبية، معتبرة أنه سيستهدف “الأسماك الصغيرة” فقط.
في المقابل، رأى المدقق العام السابق دومينيك دوميلوفو أن “إثبات الفساد بما لا يدع مجالا للشك أمر بالغ الصعوبة”، مؤكدا أن تدقيق نمط الحياة يمكن أن يكشف عن الثروات غير المبررة ويعزز المساءلة.
مؤشرات على تحرك حكومي
في سياق متصل، أعلنت الحكومة الغانية فتح تحقيق قضائي بحق 12 مسؤولا سابقا في حكومة الرئيس نانا أكوفو أدو، بتهم اختلاس أموال عامة تُقدّر بنحو 53 مليون دولار، ضمن برنامج دعم توظيف الشباب.
ويتناول هذا التحقيق واحدا من أكبر ملفات الفساد التي تفجّرت في البلاد خلال السنوات الأخيرة، ويعكس ضغوطًا شعبية متزايدة للمحاسبة.
كما اتخذ الرئيس الحالي جون دراماني ماهاما خطوات تقشفية لاحتواء الغضب الشعبي، أبرزها إلغاء بدلات الوقود للمسؤولين السياسيين، وتقليص عدد الوزارات، في محاولة لخفض الإنفاق العام وتعزيز العدالة الاجتماعية.

دروس من القارة
كانت كينيا قد قدمت نموذجا تحذيريا. ففي عام 2018، أطلقت الحكومة عمليات تدقيق في نمط حياة المسؤولين، وصادرت بعض الممتلكات، لكن ثغرات قانونية سمحت لكبار المسؤولين بالإفلات من المحاسبة.
أما في جنوب أفريقيا وأوغندا، فتُستخدم التدقيقات للتحقق من دخل ضباط الشرطة والجيش، لكنها تواجه مقاومة من داخل المؤسسات الأمنية.
ويُقدّر تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا عام 2020 أن القارة تخسر نحو 88.6 مليار دولار سنويا بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، أي ما يعادل 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بفعل الفساد والتهرب الضريبي والتلاعب في الفواتير التجارية.
ثقة على المحك
رغم خروج غانا من “القائمة الرمادية” لمجموعة العمل المالي عام 2021، فإن مظاهر الترف المفرط لدى بعض المسؤولين ورجال الأعمال لا تزال تثير شكوكا شعبية واسعة.
وتقول ماري أدا، المديرة التنفيذية لمنظمة الشفافية الدولية في غانا، إن “التدقيق في نمط حياة المسؤولين بات ضرورة ملحة لاستعادة ثقة المواطنين”.
وفي ظل تصاعد التدقيق الدولي، يرى مراقبون أن استجابة غانا لحملة الإف بي آي ستكون اختبارا حاسما لقدرتها على الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، في وقت تتآكل فيه الثقة بالمؤسسات حول العالم.
وفي هذا الصدد يقول رئيس البرلمان باغبين: “قدرتنا على العمل بشفافية وفعالية ستحدد ما إذا كان المواطنون يرون في المساءلة احتمالا واقعيا أم مجرد شعار بعيد المنال”.