البيت الحجري اللبناني الذي كان يوما مأوى للذكريات، بات اليوم ينبض بروائح الموز والفواكه والشوكولاتة، لا من المطبخ، بل من فناجين مخصوصة.

لم تكن ميرا، المهندسة المعمارية، تتخيّل أن فنجان القهوة الصباحي الذي يرافق أيامها المزدحمة سيقودها إلى مسار مختلف تماما.

“كنت أشرب القهوة يوميا، أحيانا أكثر من اللازم، لكنها بدأت تزعجني، شعرت أن ثمة نكهة ناقصة، كأن القهوة التي أتناولها لا تُشبه تلك التي أسمع عنها في الخارج، لم تكن ترتقي إلى ما أبحث عنه”، تقول إستفان للجزيرة نت.

هذا الشعور لم يمر مرور الكرام، بل دفعها إلى الغوص في عالم مواز لم تكن تعرفه: عالم القهوة المختصة، حيث تُروى الحكايات في كل رشفة.

من هندوراس إلى زحلة

لم تكن بدايتها من كتاب، بل من قلب التجربة، الحبل الذي شدّها إلى هذا العالم كان شقيقها، الذي أمضى أكثر من 15 عاما في منطقة (ماركالا ريجن) في هندوراس، إحدى أبرز مناطق زراعة البن في أميركا اللاتينية، وهناك، فهم أن القهوة ليست مجرد مشروب، بل ثقافة وعلم وفن.

أرسل لها أول عيّنة من هناك، تتذكّر ميرا تلك اللحظة: “عندهم، القهوة مثل الكرز بزحلة تُزرع بحب، تُحمّص بعلم، وتُقدّم باحترام.. حين تذوّقتها، أحببتها فورا، كانت خفيفة، ناعمة، ولها طعم حقيقي.. هذه العينة كانت الشرارة”.

علمٌ لا صدفة

بدأت الحكاية بتجربة تذوّق تحوّل إلى شغف ثم إلى مشروع، وقرّرت ميرا ألا تكتفي باستيراد قهوة عالية الجودة، بل أن تُعيد بناء علاقتها بها، فسافرت بين أثينا ودبي ولندن لتدرس علم التحميص وتفاصيل الجودة.

“ما نسميه تحميصا هو علم دقيق، أي خطأ فيه قد يدمّر جهد سنوات من المزارع، القهوة المختصة تُتابَع منذ البذرة إلى الفنجان، وكل مرحلة تخضع لمراقبة صارمة، إنها كالسيمفونية لا تحتمل نشازا”.

“حتى طرق التجفيف هي فن قائم بحدّ ذاته، هناك التجفيف الطبيعي، والمعسّل (honey process)، والمغسول (washed)، وغيرها من الأساليب التي تضيف نكهات أشبه بالشوكولاتة الداكنة أو الفواكه المجففة، لكن في لبنان غالبا ما تقتل هذه النكهات تحت طبقة تحميص مفرط، تحميص يقتل القهوة، بدل أن يحييها”، تروي ميرا.

بداية الحكاية

وسط هذا الشغف المتصاعد، أتت الفرصة التي كانت تنتظرها منذ زمن لترميم بيت جدّها، الذي حوّله والدها ذات يوم إلى مشغل للرسم والنحت، وقد ظلّ مغلقا بعد إصابة الأب وفقدان إحدى عينيه، لكن سنوات الصمت والحنين، انتهت حين قررت ميرا أن تعيد إليه الحياة بطريقتها.

“أردناه أن يكون مساحة للتذوّق والتعليم ونشر الوعي، لا نبيع قهوة فقط.. نحن نحكي قصتها”، تسرد ميرا.

ميرا إستفان – مهندسة معمارية وصاحبة مقهى في زحلة

في إحدى غرف البيت، وضعت محمصة رقمية من طراز (بروبات) وهنا، تبدأ كل دفعة قهوة رحلتها من الحبة الخضراء إلى الفنجان، بعين خبيرة وشغف لا يهدأ.

“إنها ليست قهوة عابرة تُحضّر من مزيج مجهول، كل فنجان يأتي من مزارع معروفة، في منطقة محددة، وفق شروط زراعة وتخمير دقيقة، ثم يُحمّص محليا بحب وإتقان”، تشرح ميرا طريقة صنع القهوة.

“لا نُخفي عيوب القهوة بالتحميص بل نُظهر نكهاتها، القهوة الجيدة لا تحتاج قناعا، نريدك أن تتذوّق حقيقتها في كل رشفة”، وفق ميرا.

فنجان بنكهة الذاكرة

بهذا المشروع، لا تقدّم ميرا قهوة فقط بل تعيد رسم علاقتها بالمكان، بالجدّ، والأب وبالبيت الذي عاد حيّا.

فالقهوة “ليست فقط ما في الفنجان… بل ما قبله، وما وراءه”، وفق قول ميرا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version