في السنوات الأخيرة، ظهرت في الأردن ظاهرة مقلقة تتجاوز مجرد الحديث النظري لتصل إلى ممارسات متكررة ومنظمة داخل القطاع الطبي. هذه الظاهرة هي تأجير الشهادات الطبية، حيث يجد بعض الأطباء والصيادلة أنفسهم مضطرين لبيع أو تأجير شهاداتهم مقابل مبالغ مالية شهرية. يكشف تحقيق معمق عن تفاصيل هذه “التجارة” المتنامية، وتأثيرها على ثقة المرضى وجودة الرعاية الصحية المقدمة.
تفاقم ظاهرة تأجير الشهادات الطبية في الأردن
لم يعد تأجير الشهادات الطبية مجرد استثناء فردي، بل تحول إلى سوق موازٍ يعمل في الخفاء، مدفوعًا بالضغوط الاقتصادية والحاجة إلى دخل سريع. وقد رصدت التحقيقات نسخًا من عقود اتفاق لتأجير شهادات طبية، مع حجب البيانات الشخصية للأطراف المعنية حفاظًا على الخصوصية. هذه الوثائق تؤكد أن الظاهرة أصبحت منظمة، وتستهدف بشكل خاص حديثي التخرج أو أولئك الذين يواجهون صعوبات مالية.
الأسباب الكامنة وراء اللجوء إلى التأجير
العديد من الأطباء والصيادلة يجدون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه بعد سنوات من الدراسة والديون المتراكمة. يضطرون إلى البحث عن مصادر دخل إضافية لتغطية نفقاتهم، وهنا يظهر “المستثمر” الذي يبحث عن اسم طبيب أو صيدلي لترخيص مؤسسة طبية. البعض يرى أن النظام نفسه هو المشكلة، حيث يجعل الحصول على ترخيص وتأسيس عيادة أو صيدلية أمرًا معقدًا ومكلفًا، مما يدفعهم إلى البحث عن طرق مختصرة، وإن كانت غير قانونية.
قصص من داخل “السوق السوداء” للشهادات
وراء كل اسم يظهر على واجهة عيادة أو صيدلية، هناك قصة إنسان. قصص تروي تفاصيل الضغوط التي دفعت بعض الأطباء والصيادلة إلى اتخاذ قرارات صعبة.
معاناة الأطباء: الملاذ الأخير من الأزمة
الطبيب محمد (اسم مستعار) يصف تجربته بأنها “الملاذ الأخير من أزمة خانقة”. بعد سنوات من الدراسة والديون، وجد نفسه عاجزًا عن الوفاء بالتزاماته. عبر شبكة معارفه، التقى بمستثمر يبحث عن مشروع طبي، وتوصلا إلى اتفاق يقضي بتأجير اسمه مقابل 600 دينار شهريًا (حوالي 840 دولارًا أمريكيًا). يعترف محمد بأن الشهادة التي حلم بها لإنقاذ الناس تحولت إلى وسيلة لإنقاذ نفسه من الفقر.
المخاطر القانونية والتنازل عن المسؤولية
الطبيب رائد (اسم مستعار) قبل عرضًا مشابهًا لتسجيل اسمه في مركز طبي غير مرخص، مقابل مبلغ ثابت ودون عقد رسمي. على الرغم من إدراكه للمخاطر القانونية، يرى أن “المشكلة في النظام الذي جعل الشهادة عبئًا بدل أن تكون فرصة”. في حالات أخرى، يتم إبرام عقود “قانونية في ظاهرها لكنها في جوهرها تأجير صريح”، كما يصفها الطبيب العام مروان (اسم مستعار)، الذي أجّر شهادته لترخيص عيادة تجميل. هذه العقود غالبًا ما تتضمن بنودًا تعفي الطبيب أو الصيدلي من أي مسؤولية مهنية، وهو ما يعتبره مروان “درعًا شكليًا لا يحمي من المحاسبة”.
انتشار الظاهرة في قطاع الصيدلة
في قطاع الصيدلة، تتسع الدائرة بشكل أكبر. الصيدلاني رامي (اسم مستعار) نشر إعلانًا على “فيسبوك” بعد أن قرأ عن عروض مشابهة، وسرعان ما تلقى عرضًا بدخل ثابت قدره 700 دينار (حوالي 980 دولارًا أمريكيًا) مقابل استخدام اسمه فقط. يقول رامي: “الاتفاق بسيط وسريع، لكن تبعاته المعنوية ثقيلة، خاصة عندما تدرك أن الصيدلية تُدار من أشخاص بلا ترخيص”.
الشعور بالذنب والمسؤولية غير المباشرة
الصيدلانية ليلى (اسم مستعار) تروي قصتها بنبرة ندم: “الأمر يبدو بسيطًا، عقد مكتوب يحدد المدة والمبلغ، لكن كلما سمعت عن خطأ طبي أشعر أنني شاركت فيه بطريقة غير مباشرة”. هذا الشعور بالذنب والمسؤولية غير المباشرة هو أحد التداعيات النفسية الخطيرة لهذه الممارسة.
تأثير تأجير الشهادات على الرعاية الصحية
من خلال تتبع التحقيق للعقود والوثائق، تبين أن معظمها يتضمن بنودًا ترفع المسؤولية عن الطبيب أو الصيدلي، في حين يحصل المستثمر على ترخيص رسمي. هذا يعني أن القانون نفسه يمكن أن يصبح غطاء لتجاوز القانون. مع اتساع هذه الممارسات، لم تعد العلاقة بين الطبيب والمستثمر شراكة مهنية قائمة على الثقة، بل صفقة صامتة تحكمها الحاجة والربح. وهكذا، لم يعد السؤال من المسؤول، بل كم تساوي الشهادة في سوق الحاجة؟
تدهور جودة الخدمات الطبية
تأجير الشهادات الطبية يؤدي بشكل مباشر إلى تدهور جودة الخدمات الطبية المقدمة. فغياب الرقابة الفعالة على المؤسسات الطبية التي تعمل بتراخيص مستأجرة، يزيد من خطر الأخطاء الطبية والإهمال. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الممارسة تقوض ثقة المرضى في الأطباء والصيادلة، وتزيد من شعورهم بالقلق وعدم الأمان.
الحاجة إلى حلول جذرية
هناك حاجة ماسة إلى حلول جذرية لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة. يتطلب ذلك مراجعة شاملة للنظام الصحي، وتسهيل إجراءات الحصول على التراخيص، وتوفير الدعم المالي للأطباء والصيادلة حديثي التخرج. بالإضافة إلى ذلك، يجب تشديد الرقابة على المؤسسات الطبية، وتطبيق عقوبات رادعة على المخالفين. كما أن التوعية بأضرار هذه الممارسة، وتشجيع الأطباء والصيادلة على الإبلاغ عن أي محاولات لاستغلالهم، أمر ضروري لحماية المجتمع وضمان حصوله على رعاية صحية آمنة وفعالة. التركيز على الاستثمار في القطاع الصحي ورفع مستوى المعيشة للأطباء والصيادلة هو جزء أساسي من الحل.
الخلاصة
تأجير الشهادات الطبية في الأردن ليس مجرد قضية قانونية، بل هو مؤشر على أزمة أعمق في القطاع الصحي. هذه الممارسة تقوض الثقة، وتدهور الجودة، وتعرض حياة المرضى للخطر. يتطلب معالجة هذه المشكلة تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من الحكومة إلى النقابات المهنية إلى الأطباء والصيادلة أنفسهم. يجب أن يكون الهدف هو بناء نظام صحي قوي ومستدام، يضمن حصول جميع المواطنين على رعاية صحية عالية الجودة، ويحمي حقوق وكرامة العاملين في هذا القطاع الحيوي. ندعو إلى فتح حوار وطني حول هذه القضية، والبحث عن حلول عملية وفعالة، قبل أن تتفاقم الأمور وتخرج عن السيطرة.



