بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

تحتفل الدنيا كلها في هذه الأيام بذكرى اليوم الذي وُلد فيه رسول الله محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وسلم.

وحق علينا أن نحتفل بهذه المناسبة المهمة اعتزازا منا بالرسول الكريم، وبما جاء به إلينا من الهدي، حين دلنا على الإسلام، ووضع أسس الدولة الإسلامية. وإذا كان الناس في العالم كله يحتفلون بذكرى كل كبير عندهم، فإن من الأولى بنا أن نحتفل بسيد الخلق أجمعين، وهو الذي حرر المصدقين به من أدران الجاهلية ووضعهم في طريق النور الذي لا نزال نسير فيه نحن ومن سيأتي بعدنا إلى يوم القيامة.

إن أي اهتمام نبذله في إحياء ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كثيرا عليه، بل هو مطلوب، ويكفينا أن الخالق عز وجل قد حثنا في كتابه الكريم على هذا الاهتمام بقوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) سورة الأحزاب الآية رقم 56.

وقوله كذلك: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) سورة الفتح، الآية رقم 9.

«تعزروه: تنصروه بنصركم لدينه».

لذا، فإنه ليس لنا عذر إن أهملنا التعبير عن محبتنا لرسول الله، والتزامنا بالرسالة التي حملها إلينا فاهتدينا بها نحن ومن سبقنا، وسيهتدي بها من يأتي من بعدنا.

وأي ادعاء بأن الاحتفاء بمولد الرسول الكريم أمر لا داعي له، فإنه ادعاء مخالف لما أمرنا به الله عز وجل، ونحن نخشى أن يكون الدعاة إلى عدم الاهتمام بمثل هذه المناسبة في طريقهم إلى الاتصاف بالصفة المذمومة التي اتصف بها الخوارج أثناء فتنتهم، وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عندما قال: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية… إلخ» رواه البخاري ومسلم.

– «تحقرون هنا بمعنى تستصغرون، ومعنى: لا يجاوز حناجرهم أنه لا يؤثر فيهم بالتقوى والعمل الصالح».

فهل يريد أي مسلم أن يكون مثل هؤلاء؟

٭ ٭ ٭

ونعود هنا إلى ما أردنا أن نبينه في هذا الفصل لكي نذكر جانبا مهما من جوانب تلك الفترة التي شهدت بداية الدعوة النبوية الشريفة إلى هذا الدين القويم: الإسلام.

ولا شك في أن ابتداء هذه الدعوة كان مفاجئا للناس جميعا، وأن وقعه كان شديدا على أهل مكة، فقد أصابهم بالرعب، لأنهم خافوا على مكانتهم بين القبائل، وعلى ما اعتادوه في ديانتهم المعتمدة على عبادة الأصنام، وعلى مكانتهم بين القبائل لأنهم كانوا حماة الحرم الذي تهوي إليه قلوب الناس جميعا. ومن أجل ذلك فإن موقف أهل مكة كان موقفا معاديا للرسول الكريم منذ أن صدع بدعوته، على الرغم من أنه كان قبل أن يصدع بها موضع تقدير حتى لقد أطلقوا عليه لقب «الأمين».

وأدى موقفهم هذا إلى معاداة المسلمين الأوائل الذين التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما أرسل به، وكل ذلك لأنهم كانوا يحذرون أن يعلم أحد بما يؤمنون به فيتبعهم، ومن أجل ذلك فقد كان المسلمون يستترون بدينهم عن أعين أهل مكة الآخرين حتى لا يتعرضوا للأذى والتعنيف.

ولم يسلم من أهل مكة – في البداية – إلا من كانت له مكانة أسرية يلوذ بها فتحميه على سبيل (الفزعة) بصفته فردا من أفراد الأسرة أو القبيلة الذين لا يحق لأحد أن يلحق بهم أذى، أو يتعرض لهم بسوء، ولم تكن هذه الفزعة إلا لسبب واحد هو أن العربي يأنف أن يخضع أي واحد من أهله لأذى. ويرى أن كبير القوم هو الوحيد الذي يحق له أن يعاقب المخطئ، لأن أمر ذلك بيده.

ولكن الله – عز وجل – شاء أن يعم الكون هذا النور بفضله، وأن تعلم جزيرة العرب – قبل غيرها – بالدعوة الإسلامية التي حمل مشعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ أفراد من الناس يفدون إلى مكة المكرمة لاستطلاع أمر هذا الدين، مما حمل عددا كبيرا من هؤلاء الوافدين إلى الدخول في حظيرته، ومنذ ذلك الزمن، ومكة تستقطب الناس من كل مكان حتى انتشر هذا الدين القويم.

ومن هنا ندخل إلى الحديث الذي أردنا تقديمه في هذا الفصل، لأنه حديث يدل على هذا الذي قدمناه. وهو حديث فيه ذكر لرجل من أوائل الذين أسلموا، واتبعوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعا، بل إن هذا الرجل له امتياز يذكر له، فهو من أوائل من التحق بالركب الإسلامي من خارج مكة، وهو من سعى إلى ذلك لمجرد سماعه بدعوة الرسول الكريم إلى الإسلام. لذا، فإن حكايته ينبغي أن تروى، وهي ليست حكاية واحدة، فإن له ما يميزه يوم إسلامه، وله ما يميزه يوم وفاته، رحمه الله.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في نشر دعوته إلى الإسلام وفق الأوامر السماوية التي تصدر له من عند الله، عز وجل، وقد ابتدأ – كما أمر – بالأقربين منه، فحصر دعوته في عشيرته، كما ورد في القرآن الكريم في الآية رقم 214 من سورة الشعراء: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ومن هنا ابتدأ ظهور هذه الدعوة المباركة وانتشر ذكرها حتى خرج عن الموضع الذي بدأت فيه.

ومن هنا بدأت الحكاية الأولى للرجل الذي أشرنا إليه آنفا، فقد كانت الخطوة الأولى التي خطاها الرسول الكريم تنفيذا لأمر الله عز وجل سببا في ذيوع ذكره في باقي أجزاء جزيرة العرب وانتباه أول من سعى إلى الالتحاق بالركب المسلم. وهذا الرجل هو أبو ذر الغفاري الذي صار – فيما بعد – واحدا من أبرز صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأضحت له مكانة عالية في تاريخ الإسلام، واستطاع أن يلم بكل ما يتعلق بهذا الدين من علم.

وردت حكايته الأولى برواية البخاري ومسلم، وأثبتها الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي في كتابه: «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان». ونورد هنا النص الذي ورد بهذا الشأن في الكتاب المذكور، وهو يوضح لنا المشاق التي تكبدها أبو ذر في سبيل الوصول إلى مبتغاه منذ أن سمع بمبعث الرسول الكريم إلى أن دخل زمرة المسلمين دون أن يتردد لحظة واحدة في قبول الهدي الذي ساقه الله إليه.

وهذا هو نص ما ورد في الصفحتين 668 و669 من الكتاب المذكور: حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال:

«لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك، قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري قال: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه».

وهذه هي معاني بعض الألفاظ التي ورد في هذا الحديث:

(هذا الوادي: وادي مكة، شنة: قربة خالية قديمة وهكذا تسمى في لهجتنا، التمس: طلب، أما آل: أما آن، قوله: أريق الماء، تعبير عن قضاء الإنسان حاجته في الحمام، واللفظ في لهجتنا، يقفوه: يتبعه، ظهرانيهم: بينهم).

وفي كتاب: «الإصابة في تمييز الصحابة» وهو من تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. وهو كتاب مشهور في هذا الباب يسعى إلى الإطلاع عليه كل من يريد أن يحصل على معلومات عن أي صحابي، فهو قد ألم بهم جميعا، رضي الله عنهم.

في هذا الكتاب وعلى التحديد فئة القسم السابع ص 125 تحدث ابن حجر العسقلاني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وذكر الاختلاف في اسمه واسم أبيه، وقد تبين في ذلك اختلافا كثيرا، جعل الناس – فيما يبدو – يكتفون بذكره الشائع، وهو: أبو ذر.

ثم بين أنه من السابقين إلى الإسلام، وأن خبر ذلك وارد في الصحيحين، وهذا هو ما قدمناه فيما مر بنا من حديث، وهؤلاء الذين نقل عنهم المؤلف أخبار هذا الصحابي الجليل أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرب أبا ذر في مجلسه، وكان يثني عليه، وعلى صدق إيمانه. ومما قيل فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب».

ونقل ابن حجر عن كتاب السيرة النبوية ما ورد عن حدث له صله بأبي ذر رضي الله عنه، وبغزوة تبوك.

وكانت هذه الغزوة من أهم الغزوات منذ صدر الإذن الإلهي للمسلمين بالدفاع عن دينهم وعن أنفسهم بالجهاد في سبيل الله. ولئن كانت غزوة بدر الكبرى مهمة فإن غزوة تبوك مهمة هي الأخرى لأنها كانت ضد عدو له مقدرة عسكرية كبيرة، وكان يحشد جيشا يخشى منه على المسلمين، وهذا العدو هو دولة الروم التي كانت إحدى أقوى دولتين في المنطقة، وكانت قد حشدت جنودها – آنذاك – لمهاجمة المدينة المنورة والقضاء على دولة الإسلام وهي من مهدها.

وكان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحرب بمن معه من المسلمين في وقت شديد الصعوبة – كما مر بنا – ولكنه على صعوبته لم يثن الرسول الكريم ولا أولئك الرجال عن الإقدام على عدوهم.

وصف ابن هشام في كتابه: «السيرة النبوية» هذا الموقف يوم دعا الرسول الكريم إلى الجهاد فقال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمن عسره من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على ذلك الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم».

وقد خرج ذلك الجيش يقوده الرسول الكريم، وعاد ظافرا حامدا لله عز وجل على الانتصار الذي هيأه له.

ووصف الكتاب حال الجيش المسلم حين كان أفراده يتلفتون فيرون أن عددا من أصحابهم لم يأتوا معهم لكي يشاركوهم ما كانوا بصدده من دفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن المدينة وأهلها، فقال:

«ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا: فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان! فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه». حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبوذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه فإن يك في خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».

وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسول الله في بعض منازلة، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا لرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر». فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

(تلوم ناقته: انتظر حركتها للمسير).

٭ ٭ ٭

عاش سيدنا أبو ذر حتى سنة 32هـ (652م)، وقد بقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم متمسكا بما عاهد الرسول عليه، حافظا لنفسه من كل زلل قد يعترض المرء في حياته، ولقد استمر على الحالة التي كان عليها أثناء صحبته للرسول الكريم.

ولم يكن مهتما بالدنيا، كما لم يكن يتنازل عن قول الحق مهما لحق به بسببه من مشاق، ومن ضمن هذه المشاق أنه كان في الشام، ولقي هناك معاوية بن أبي سفيان حين كان واليا على تلك البلاد من قبل الدولة الإسلامية، فجرى بينهما نقاش حول كنز الأموال، وضرورة إنفاقها، وهذا هو موقف أبي ذر المعروف عند جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنهم كانوا يرون في مسألة كنز المال رأيا آخر عندهم عليه دليل.

كان أبو ذر رضي الله عنه يرى وجوب التصدق بكامل المال حتى لو زاد منه شيء بعد دفع الصدقة والزكاة الواجبة. وكان يحث الناس على ذلك، ويشتد عليهم في كلامه، وخالفه في ذلك باقي الصحابة لأنهم رأوا أن كنز المال المنهي عنه ينطبق على المال الذي لم تدفع زكاته، وقد أستدلوا لذلك بقول الرسول الكريم: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم».

ولكن رأي أبي ذر لم يغير شيئا من تقدير كافة الصحابة له واحترامهم لسنه، وتقديرهم لأسبقيته إلى الإسلام ورضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. ولم يكن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا واحدا من هؤلاء يرى ما يرون في صاحبهم وصاحب الرسول الكريم: أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

وما ينبغي أن يقال هنا أن البعض قد حمل على سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه مدعين – عن ضلالة – أنه نفي سيدنا أباذر إلى خارج المدينة، والواقع يخالف ذلك لأن من الجلي أن هذه الأكذوبة إنما هي واحدة من الأكاذيب التي ألصقت بالخليفة الثالث من أناس لا يخافون الله فيما قالوه، بدليل قتلهم له.

وصحيح الأمر أن أبا ذر كان كثير التردد على الربذة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما وجد أن رأيه في الزهد لا يرتاح إليه أحد أراد أن يفر بنفسه إلى مكانه الذي اختاره لكيلا يضيق به أحد.

(الربذة: موضع في شرقي المدينة المنورة، تبعد عنها مقدار مائتي كيلومتر، وهي إحدى محطات القوافل القادمة من الكوفة والبصرة).

ولم يكن بقاؤه هناك نفيا له من المدينة كما لم ير أنه من الخير مقابلة الناس برأيه الذي قال عنه العلماء، بأنه مقبول لأن الصدقة مستحبة، ولكنه مما لا يجب الأخذ به على المسلمين، لأن حدود الإنفاق معروفة في القرآن الكريم والسنة الشريفة. وما يبقى من مال في يد الدولة أو في أيدي الناس بعد دفع الصدقات الواجبة والمسنونة، فإنه لا مانع من أن يبقى على سبيل الاحتياط لأوقات الضرورة.

ومما يشفع لهذا الرأي قوله صلى الله عليه وسلم لواحد من الصحابة استفتاه عن وصيته بماله فرد عليه: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أعطوهم أو منعوهم».

ومن أوضح الأمور الدالة على عدم صحة حكاية نفي أبي ذر من قبل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ما وراه الصحابي الجليل عبدالله بن الصامت عن عودة أبي ذر من الشام إلى المدينة، ولقائه بالخليفة. وحول هذا يقول هذا الصحابي:

«دخلت مع أبي ذر على عثمان، فحسر رأسه (يعني أبا ذر)، وقال: والله ما أنا منهم – يعني بهم الخوارج – فقال عثمان: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا في المدينة. فقال: لا حاجه لي في ذلك ائذن لي بالربذة، قال: نعم».

وهذا يثبت عدم صحة النفي لأنه كان يستأذن الخليفة في الذهاب إلى هناك. وهذا يدل على رغبته في الابتعاد فهو لا يزال يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عنه: «يموت وحده».

فأعد نفسه لذلك بطلب الأذن بالرحيل إلى الربذة من أجله.

٭ ٭ ٭

وبعد، فهذا ما أردت إيراده من حديث في مناسبة ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه بدت ملامح من بدايات ظهور الإسلام، وانتشار الدعوة إليه، ومعاناه الرسول الكريم في سبيل نشرها هو ومن معه ممن آمن بالنور الذي جاء به. وكان أول ما لقيه من أذى إنما هو من أهل مكة الذين أبوا أن يصدقوا بالرسالة التي حملها إليهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، على حين جاء سيدنا أبو ذر الغفاري من مكان آخر ليعلن عن إسلامه، على الرغم مما لقيه من مشقة، وعلى الرغم من أنه هو الباحث عن مصدر الدعوة الحريص على تلبيتها، وكان مستعدا لتلقي المصاعب في سبيلها.

هذا الصحابي الجليل هو الذي كرست القسم الأكبر من هذا الحديث حوله، فهو نموذج مهم للمسلمين الأوائل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version