في تحول جيوسياسي مفاجئ، أثارت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة صدمة واسعة في العواصم الأوروبية. لم تعد روسيا هي العدو الأول المعلن، بل يبدو أن التهديد، وفقًا للإدارة الأمريكية الحالية، ينبع من الداخل الأوروبي نفسه. هذا التحول الدراماتيكي، الذي يهدد بتقويض عقود من التحالفات، يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقات عبر الأطلسي، ويضع أوروبا أمام تحديات غير مسبوقة.

صدمة في أوروبا: تحول الأولويات الأمريكية

كشفت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب عن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة التي قلبت الموازين التقليدية في السياسة الخارجية. بدلًا من التركيز على التهديد الروسي، كما جرت العادة، وجهت الوثيقة سهامها نحو “التحديات الداخلية” التي تواجهها الدول الأوروبية، وعلى رأسها قضايا الهجرة والتغيرات الديموغرافية.

الوثيقة لا تخفي قلقها من احتمال تحول أوروبا إلى كتلة سكانية غير أوروبية، وتستخدم لغة حادة تتهم بعض السياسات الأوروبية بـ “تقويض الحضارة”. هذا الخطاب، كما يرى المحللون، يتقاطع بشكل كبير مع أيديولوجيات اليمين المتطرف في القارة، وهو ما أثار استياءً بالغًا في الدوائر السياسية الأوروبية.

اليمين المتطرف.. شريك أمريكا الجديد؟

الأكثر إثارة للجدل في الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة هو الإشادة الصريحة بالأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا. الوثيقة تعتبر هذه الأحزاب “الشريك الأوروبي الحقيقي” للولايات المتحدة، معلنةً نية واشنطن دعم صعودها السياسي.

هذا الدعم العلني يذكرنا بالنهج الأمريكي خلال الحرب الباردة تجاه المعارضين السوفييت، ولكنه يحمل في طياته مخاطر جمة على الوحدة الأوروبية والاستقرار السياسي. كما أن لغة الوثيقة تتطابق مع خطاب “الاستبدال العظيم”، وهي نظرية مؤامرة تدعي وجود خطة لإحلال وافدين غير مسيحيين وغير بيض محل السكان الأصليين في أوروبا وأمريكا الشمالية.

تداعيات التحول على التحالفات الغربية

هذا التحول في السياسة الأمريكية لا يقتصر على مجرد تغيير في الخطاب، بل يمتد ليشمل تغييرات جوهرية في السياسات والمواقف. تخشى أوروبا من أن إدارة ترامب قد تسعى إلى إبرام اتفاق سلام مع روسيا على حساب أوكرانيا، وتتهمها بتبني “توقعات غير واقعية” بشأن الصراع الدائر.

وقد دفع هذا كلا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى تكثيف جهودهما للتنسيق مع كييف، وتعزيز الدعم العسكري والسياسي لها. بالإضافة إلى ذلك، تشير الوثيقة إلى رغبة الولايات المتحدة في أن تتحمل أوروبا المسؤولية الأساسية عن أمنها، مع تقارير تفيد بأن البنتاغون يهدف إلى إنهاء اعتماد أوروبا على المظلة الأمنية الأمريكية خلال العامين القادمين.

الضغط على أوروبا لزيادة الإنفاق الدفاعي

لم تكن المطالبة بزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي أمرًا جديدًا، ولكن الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة تضع هذا الأمر في سياق مختلف. فبدلًا من اعتبار ذلك مجرد مساهمة في الأمن العالمي، يبدو أن الهدف هو إجبار أوروبا على الاستثمار بشكل أكبر في قدراتها الدفاعية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة.

هذا الضغط يضاف إلى الانتقادات الموجهة للاتحاد الأوروبي، والذي تعتبره الوثيقة كيانًا يعيق السيادة الوطنية للدول الأعضاء، ويفرض تنظيمات مفرطة على الشركات، خاصة في القطاع الرقمي.

مقارنة مع إستراتيجية 2017: تحول جذري

من المهم الإشارة إلى أن الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة تختلف بشكل جذري عن وثيقة ترامب لعام 2017. فبينما أشادت وثيقة 2017 بالتحالف الغربي وانتقدت موسكو، تركز الوثيقة الحالية على التهديدات الداخلية في أوروبا، وتمتدح الأحزاب اليمينية المتطرفة.

هذا التحول يعكس تغيرًا عميقًا في رؤية الإدارة الأمريكية لمصالحها وأولوياتها في العالم. كما أنه يشير إلى أن مستقبل التحالفات الغربية قد يكون أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما كان عليه في الماضي.

مستقبل العلاقات عبر الأطلسي: سيناريوهات محتملة

يثير هذا التطور مخاوف جدية بشأن مستقبل العلاقات عبر الأطلسي. هل ستؤدي الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة إلى تفكك التحالف الغربي؟ أم أن أوروبا ستتمكن من التكيف مع هذه التغييرات، وتعزيز دورها كقوة مستقلة في الساحة الدولية؟

هذه الأسئلة لا تزال بلا إجابة، ولكن المؤكد أن أوروبا تواجه فترة حرجة تتطلب منها حكمة وبعد نظر. من الضروري أن تعمل الدول الأوروبية معًا، وأن تعزز وحدتها وتماسكها، لمواجهة التحديات التي تفرضها هذه الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة.

في الختام، تمثل الإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية، وتهدد بتقويض عقود من التعاون عبر الأطلسي. يتطلب هذا الوضع تحليلًا دقيقًا، وتنسيقًا وثيقًا بين الدول الأوروبية، من أجل الحفاظ على الاستقرار والأمن في القارة. ندعو القراء إلى مشاركة آرائهم حول هذا الموضوع الهام، ومناقشة التداعيات المحتملة لهذا التحول الجيوسياسي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version