يشهد الفضاء الخارجي تحولا دراماتيكيا، فلم يعد مجرد ساحة للاكتشافات العلمية والتطورات التكنولوجية السلمية، بل أصبح خط المواجهة الجديد للقوى العالمية. هذا التحول السريع يهدد بإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، ويضع دولاً مثل دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة تحديات أمنية غير مسبوقة. لم يعد الأمر يتعلق فقط باستكشاف الكواكب، بل بحماية الأصول الفضائية التي أصبحت ضرورية لبنية تحتية حيوية على الأرض، بدءًا من الاتصالات وصولًا إلى الدفاع.
صعود التوترات في الفضاء: تحول استراتيجي أوروبي
في السنوات الأخيرة، انتقلت النظرة الأوروبية إلى الفضاء الخارجي من اعتبارها مجالا تقنيا محايدا إلى إدراكها كجزء لا يتجزأ من “هندسة الردع العسكري العالمية”. هذا التحول الجذري يأتي مع تزايد الاعتماد على الأقمار الصناعية في جوانب متعددة من الحياة – الاتصالات، الملاحة الدقيقة، جمع المعلومات الاستخبارية، وإدارة العمليات العسكرية. أي تهديد للفضاء الأوروبي لم يعد مجرد خطر تقني، بل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي، وهو ما دفع صانعي القرار إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم الدفاعية.
تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن “الحرب تدار في الفضاء، وحروب الغد ستبدأ من هناك”، لم يكن مجرد تعبير بلاغي، بل كان بمثابة جرس إنذار. هذا التصريح يعكس تراكم الأدلة والتقارير الأمنية التي تؤكد أن المدار الأرضي أصبح ساحة مواجهة صامتة ولكنها حاسمة بين القوى الكبرى.
الحملة الفضائية الهجينة: روسيا والصين في المقدمة
خلال العام الماضي، بدأت تظهر ملامح حملة فضائية هجينة، تتصدرها روسيا، تستهدف البنية الفضائية الأوروبية بأساليب متنوعة: التشويش المتعمد على الإشارات، المناورات المدارية المقلقة، والهجمات السيبرانية المتطورة. هذه الأساليب تهدف إلى تعطيل أو إضعاف قدرات الأقمار الصناعية الأوروبية دون اللجوء إلى أعمال عدائية مباشرة.
التهديدات الفضائية لا تقتصر على روسيا. الصين، من خلال برنامجها الفضائي الطموح، تطور قدرات فضائية متقدمة تتماشى مع سعيها للهيمنة التكنولوجية. وتقوم الصين بتطوير تقنيات قادرة على تعطيل الأقمار الصناعية للخصوم، بما في ذلك استخدام أسلحة الليزر والأسلحة الكهرومغناطيسية.
حتى كوريا الشمالية، على الرغم من محدودية قدراتها، أضافت بعدًا جديدًا من عدم اليقين من خلال تجاربها الصاروخية المدارية، مما يهدد بزيادة خطر الاصطدامات في الفضاء.
أدلة على الاعتداء: التشويش والاقتراب المداري
تتراكم الأدلة التي تشير إلى أن روسيا تتجاوز حدود المنافسة السلمية في الفضاء. وثقت تقارير بريطانية حديثة محاولات تشويش أسبوعية على الأقمار البريطانية، مما أثر على قدرة الطائرات على الهبوط في مطار تارتو في إستونيا في مايو 2024. هذه الحوادث، التي تم رصدها من خلال برنامج “سكاي نت” للأقمار العسكرية البريطانية، تعتبر تهديدًا مباشرًا للاتصالات العسكرية لحلف الناتو.
بالإضافة إلى التشويش، تقوم روسيا، عبر قمر “لوتش-أوليمب” المصنف كأخطر قمر روسي، بمناورات “الالتحام والاقتراب المداري” من الأقمار الاصطناعية الألمانية. هذه التقنية – التي تتضمن تحريك قمر صناعي بشكل مقرب من قمر آخر – تعتبر بمثابة تحذير، وتمهيدًا محتملاً لعمل عدائي.
كما تعرضت طائرة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين للتشويش المتعمد أثناء تحليقها فوق بلغاريا، مما يدل على أن هذه الهجمات لا تستهدف فقط الأصول العسكرية، بل تمتد إلى أعلى مستويات القيادة السياسية في أوروبا.
رد الفعل الأوروبي: سباق تسلح فضائي؟
أدى هذا التصعيد إلى رد فعل أوروبي متزايد. أعلنت ألمانيا عن ميزانية قدرها 35 مليار يورو لتعزيز الاستقلال التكنولوجي وحماية الأصول الفضائية بحلول عام 2030. فرنسا، بدورها، أطلقت مشروعًا فضائيًا وطنيًا شاملاً يركز على القدرات الدفاعية النشطة، بما في ذلك تقنيات الليزر والمشوشات الكهرومغناطيسية.
تجري المباحثات بين فرنسا وألمانيا لإنشاء نظام إنذار مبكر يدمج عمل الأقمار الصناعية الأرضية، بالإضافة إلى تخصيص قمرين ثابتين تكميليين. ويجري اقتراح مشروع “عين أودين 2″، وهو شبكة إنذار فضائي مبكر متقدمة تهدف إلى مراقبة التهديدات القادمة من روسيا والصين.
كما اقترحت المفوضية الأوروبية مشروع “الدرع الفضائي الأوروبي”، وهو نظام شامل للقدرات الفضائية الدفاعية المتعددة، والذي من المقرر تدشينه رسميًا في عام 2026.
تحديات أمام الوحدة الأوروبية
على الرغم من هذه الجهود، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات كبيرة في بناء منظومة فضائية دفاعية متماسكة. تظهر الانقسامات بين الدول الأعضاء في تمويل هذه المشاريع الطموحة، حيث تعارض بعض الدول – مثل النمسا وأيرلندا – الإنفاق الكبير على الدفاع الفضائي.
هذه التباينات تشكل عائقًا كبيرًا أمام ولادة قوة فضائية أوروبية موحدة، وتجعل أوروبا في وضع رد الفعل أكثر من المبادرة. وفي ظل هذه الظروف، يصبح تحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الفضائية أمرًا بالغ الأهمية لضمان أمنها واستقلالها.
الفضاء.. ساحة التنافس الجديدة
مع نهاية عام 2025، أصبح من الواضح أن الفضاء الخارجي لم يعد مجرد ساحة للاكتشاف العلمي، بل تحول إلى واحد من أكثر ميادين التنافس الدولي حساسية وتعقيدًا. هذه الحروب انطلقت بالفعل في الفضاء الصامت، وتقود واقعنا المتغير بعيدًا عن وعينا وإدراكنا، وستستمر في التطور والتصاعد في السنوات القادمة. هذا يستدعي من أوروبا، وغيرها من القوى العالمية، الاستعداد لمواجهة التحديات الجديدة والاستثمار في القدرات اللازمة لحماية أمنها ومصالحها في هذا المجال الحيوي.


