بقي ملف السويداء، طوال عقود النظام السابق، قضية داخلية شبه معزولة، لم يقترب نظام الأسد من الدروز كثيراً، وفي المقابل لم يصعّد الدروز ضد النظام أكثر من مطالبتهم بإدارة محلية ورفض التجنيد الإجباري.

هذه المعادلة أبقت العلاقة بين الطرفين في حالة (هدنة)، وسمحت للنظام بتفادي مواجهة مفتوحة في منطقة حساسة جغرافياً وديموغرافياً، لكن ما كان يعانيه الدروز فعلياً في تلك الحقبة لم يكن مرتبطاً بالسلطة المركزية بقدر ما كان نتيجة التمدد الإيراني في مناطقهم، إضافة إلى نشاط (حزب الله) الذي حوّل السويداء إلى أحد ممرات تهريب الكبتاغون، في مشهد أفرغ المنطقة من استقرارها وأدخلها في شبكة معقدة من اقتصاد الحرب.

بعد سقوط نظام بشار الأسد وانتصار الثورة السورية، سادت لهجة حذرة وتصالحية بين دمشق والسويداء. فقد ارتكزت مقاربة دمشق الجديدة على مبدأ «دولة واحدة» ونزع سلاح الجماعات غير المندمجة في الدولة السورية. غير أن هذه الخطوة قوبلت برفض واسع من فصائل السويداء المسلحة، التي رأت في ذلك تهديداً مباشراً لأمنها الذاتي. وهكذا بقيت المحافظة مفتوحة على خلافات داخلية قديمة، ليست نتاجاً لإدارة دمشق، بل تعود بجذورها إلى تنافس عائلي وتباينات بين المرجعيات الدينية للطائفة الدرزية. إذ تنقسم المشيخة الروحية إلى ثلاث مرجعيات:

تيار الشيخ حكمت الهجري؛ ويعد الأكثر حضوراً سياسياً وإعلامياً في السنوات الأخيرة، ويتميز بخطاب أكثر حدّة تجاه دمشق، خصوصاً بعد سقوط النظام الأسدي. ويحظى بتأييد شريحة واسعة من الفصائل المسلحة، لكنه لا يملك النفوذ التقليدي الأكبر. ويطالب هذا التيار بمساحة استقلالية أوسع للطائفة، ومنفتح على التقارب مع إسرائيل.

والثاني تيار الشيخ يوسف جربوع، ويُعتبر الأكثر قرباً من الحكومة السورية، ويطرح خطاباً معتدلاً يدعو إلى وحدة سورية تحت سلطة الدولة المركزية، لكن بعد أحداث السويداء تراجعت نبرته التصالحية بسبب الموجة الشعبوية بقيادة الهجري.

والثالث هو تيار الشيخ الحناوي: وكان يُنظر إليه باعتباره الأكثر اعتدالاً بين المرجعيات الثلاث، لكنه قطع صلته بالحكومة في خطاب قبل أسبوعين عندما اتهم السلطة بالمشاركة في الهجوم على السويداء.

على أرضية هذه المعادلة الهشة بين دمشق والسويداء، تفجرت الأحداث الأخيرة، حين اندلعت مواجهات دامية بين عشائر بدوية مقيمة في السويداء ومسلحين دروز. سرعان ما اتسع نطاق القتال بشكل غير مسبوق في عنفه ودمويته، إذ حشدت العشائر السورية مقاتليها لنجدة بدو السويداء، فيما تجمّع الدروز حول مسلحي الشيخ الهجري. حاولت القوات الحكومية التدخل عبر الأمن العام للسيطرة على الفوضى، لكنها اضطرت للانسحاب مع اتساع رقعة الصراع جنوباً، وخصوصاً بعد دخول إسرائيل على خط المواجهة المباشرة لمصلحة الدروز، من خلال غارات جوية انتهكت سيادة سورية وفاقمت الشرخ الطائفي.

الأخطر من ذلك كان البعد السياسي للصراع؛ فقد تعهّد زعيم الدروز في إسرائيل الشيخ موفق طريف، بتوفير حماية إسرائيلية كاملة لدروز سورية مقابل قطعهم صلاتهم مع حكومة دمشق. هذه الوعود، التي جاءت على وقع الانتهاكات التي تعرض لها الدروز خلال المواجهات، والتي كانت الدولة السورية بعيدة تماماً عن هذا النهج، لكن هذه التجاوزات بدت للكثيرين من الدروز مغرية للانجرار وراء وعود موفق طريف لكنها في الواقع، كما يقرأها المراقبون، غير قابلة للتنفيذ. فالممر الأمني الذي تتحدث عنه إسرائيل يتطلب السيطرة على شريط طوله نحو 100 كيلومتر داخل الأراضي السورية، وهو ما يحتاج إلى انتشار عسكري مكشوف ومعرّض للعمليات الانتقامية، وهو خيار لا يمكن أن تغامر به إسرائيل في الظروف الحالية.

ورغم ذلك، يتقدم خيار الانفصال في أدبيات وبيانات الشخصيات الدرزية التي تعيش صدمة المعارك الطائفية، وحتى إذا عكست هذه الدعاوى «رغبات صادقة»، فإنها تبقى غير ممكنة موضوعياً، فالسويداء، بخلاف شمال شرقي سورية لا تمتلك مقومات الإدارة الذاتية: لا ثروات طبيعية كافية، ولا منفذ جغرافياً يسمح لها بالاعتماد على اقتصاد مستقل، ولا قاعدة اجتماعية متجانسة كلياً تسمح ببناء حكم مستقر. ارتباط السويداء بدمشق ليس تفصيلاً إدارياً يمكن تجاوزه، بل هو حقيقة تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية، ترفضها وقائع الماضي والحاضر والمستقبل.

المفارقة أن ما يمكن تحقيقه على الأرض اليوم هو أشبه بـ«إدارة ذاتية ممولة من دمشق». السويداء تكون حيث تكون دمشق. أي أن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الدروز هو إدارة محلية واسعة الصلاحيات، لكن ضمن بنية الدولة السورية وبتمويل من المركز. قد يبدو هذا الطرح مفارقة ساخرة، لكنه -وفق التجربة- هو الصيغة الوحيدة الممكنة. فدمشق تحتاج إلى إبقاء السويداء ضمن نطاقها، والدروز يحتاجون إلى موارد المركز.

إن أزمة السويداء اليوم تكشف عمق أزمة إدارة التنوع، وأقليات تبحث عن حماية خارجية، ومجتمع ممزق يراوح بين رغبة في الانفصال وحتمية الارتباط بالمركز. في هذا المشهد، تبدو مقولة «الانفصال» أقرب إلى الوهم، بينما يظل الخيار الواقعي هو البحث عن صيغة جديدة للتعايش داخل الدولة السورية، صيغة توازن بين مطالب السويداء في الحكم المحلي، وحاجة دمشق إلى الحفاظ على وحدة البلاد.

وإلى أن يتم الوصول إلى هذه الصيغة على النخب الدرزية التي توارت بسبب سطوة الهجرة السياسية أن يكون لها دور أيضاً في صياغة مستقبل هذه الطائفة التي تعيش في بحر أكثرية على مدى مئات السنين، وعلى هذه النخب أيضاً أن تظهر في مثل هذه الأزمات ولا تترك الساحة للقيادات الدينية؛ لأن ذلك سيكرّس بشكل أو بآخر مفهوم الأحادية في القيادية الاجتماعية، لكن على أساس ديني، وهي خطوة بائسة باتجاه تكريس الطائفية.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version