بعد سنوات طويلة من الشتات والمنافي القسرية، بدأت أعداد متزايدة من السوريين الذين شاركوا في الثورة السورية أو دعموها من الخارج بالعودة إلى الوطن عقب انتصارها النهائي. هذه العودة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة وجدانية عميقة نحو “الأماكن” التي شكّلت ذاكرتهم الشخصية والجماعية. هذه الأماكن قد لا تكون البيوت العائلية فحسب، بل مدارس، أحياء، أو حتى زقاقاً يحمل ذكريات الشباب. هذا المقال يستكشف العودة إلى سوريا من خلال قصص شخصية لأفراد عادوا بعد الانتصار، وكيف وجدوا معنى جديداً للوطنية في الأماكن التي اختاروها.
معنى الوطن في قلب دمشق: قصص العائدين
العودة إلى سوريا بعد سنوات من الغياب ليست سهلة. إنها مواجهة للذكريات، للأمل، وللواقع الجديد. التقت الجزيرة نت بشخصيات سورية عادت بعد الانتصار، لتشارك كل منها قصتها عن لقاء مَر أو مستمر مع “مكانها” الذي اختارته بنفسها، حيث شعروا آخر مرة أنهم “مواطنون”، قبل أن يتحولوا إلى “مطلوبين” أو “لاجئين” أو “مغتربين”.
المقعد الخشبي: حنين إلى زمن ما قبل المنفى
كشف المستشار الأميركي للشؤون الاقتصادية والدبلوماسية، السوري الأصل طارق نعمو، عن تجربته الشخصية بعد سنوات المنفى الطويلة. يقول نعمو إن أول ما خطر بباله عندما سُئل عن المكان الذي عاد إليه بعد الانتصار كان “المقعد الخشبي في الصف الأخير من مدرسته”. هذا المقعد كان آخر عهده برفاقه الذين فرقهم نظام بشار الأسد قبل 17 عاماً، فتشتتوا حول العالم. لكن ذلك المقعد ظلّ “أثمن من كل مقاعد الدرجة الأولى في طائرات الهجرة” حسب قوله.
يؤكد نعمو أنه حين غادر سوريا لم يكن يبحث عن “عنوان جديد في جواز سفره، بل عن فرصة جديدة للكرامة”. كان يبحث عن مكان “إذا تعبت يحترم تعبك، وإذا نجحت يحترم نجاحك، لا يسألك عن طائفتك ولا عن واسطتك، بل عن فكرتك وجهدك”. أميركا لم تكن بالنسبة له هروباً من بلده، بل “التفافاً طويلاً للعودة إلى سوريا من باب أكبر: باب الخبرة ورأس المال والعلاقات الدولية”. عاد المستشار إلى حيه القديم، ودخل المدرسة زائراً لا طالباً، واعتبر المكان الذي شهد فيه دروسه الأولى “درساً في معنى الوطن”.
غوطة دمشق الشرقية: معنويات الصمود في أرض الجراح
بالنسبة للدكتور بكر غبيس، الطبيب السوري المغترب في الولايات المتحدة وعضو منظمة “مواطنون لأجل أميركا آمنة”، فإن غوطة دمشق الشرقية، وبالأخص مدينة حرستا مسقط رأسه، تبقى المكان الأكثر تميزاً في وجدانه. رغم اغترابه عن سوريا منذ نحو 20 عاماً، ظل على ارتباط وثيق بالحراك في الغوطة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
بعد تحرير الغوطة في ديسمبر/كانون الأول 2024، زار مسقط رأسه حرستا فوجد المدينة مدمرة بنسبة 80%، بمن فيها بيته وحارته. وعلى جدران ما تبقى من منزله عبارات كتبها جنود النظام “من هنا مر الجيش العربي السوري.. وإن عدتم عدنا”. يؤكد غبيس أن هذا المكان يحمل رمزية كبيرة، فكل زيارة لسوريا لا تخلو من تفقد معالم المدينة والمشافي التي صمدت لأكثر من 5 سنوات في مواجهة ما وصفه بـ”أبشع الجرائم”. الغوطة كانت خزاناً بشرياً للثورة السورية، ومقاتلوها شكلوا طلائع القوات التي ساهمت في تحرير مناطق أخرى. اليوم، تُستعاد في المدينة لحظات الصمود والتكافل بين السوريين، ويقول “من الغوطة نستمد معنويات الصمود، ونذكّر أولادنا بأن هذا المكان كان مسرحاً لأبشع الهجمات الكيماوية على الثوار السوريين، ومع ذلك بقي رمزاً للكرامة”.
دمشق القديمة: ذكريات تتجدد في كل زاوية
في أول زيارة له إلى دمشق بعد سنوات الغياب، توجه الدكتور أحمد جاسم الحسين، رئيس اتحاد الكتاب العرب، مباشرة إلى كلية الآداب في جامعة دمشق، وتحديداً قسم اللغة العربية. يقول الدكتور الحسين إنه قضى في هذا القسم نحو ربع قرن من حياته، ويصفه بأنه المكان الذي تشكّلت فيه شخصيته وحصل على الكثير من الفرص.
كما يذكر الدكتور الحسين “مقهى النوفرة” خلف المسجد الأموي، حيث كان يجلس فيه بشكل شبه أسبوعي مع أصدقاء محددين، بات كل منهم اليوم في مكان مختلف من العالم. ويستذكر حتى اليوم طعم الشاي وتلك الجلسات. المشي في شوارع دمشق القديمة، وخاصة زقاق القيمرية، كان جزءاً رئيسياً من حياته العائلية. يحرص الحسين على زيارة منطقة ساروجة، ليكتشف أزقتها من جديد ويلاحظ وجوه الناس المتغيرة، ويمر بساحة المرجة فيستذكر عراقتها. هذه الأماكن لا يُشبع منها، فالبشر المارّون يتغيرون يومياً، لكن التواصل مع المكان وجداني عميق.
العودة إلى سوريا: أكثر من مجرد مكان
العودة إلى سوريا ليست مجرد استعادة لأماكن مألوفة، بل هي فرصة لإعادة بناء الحياة والمشاركة في مستقبل أفضل. يلاحظ رئيس اتحاد الكتاب العرب أن “دمشق عادت خلال فترة قصيرة نسبياً إلى سحرها وحضورها الكامل”. يضيف “هناك أماكن كثيرة في دمشق، لكن المدينة بالنسبة لي هي مكان التشكل والوجود”. إن العودة إلى الوطن تحمل في طياتها مسؤولية بناء شيء جديد، حتى لو كان مشروعاً صغيراً في الحيّ، فهو جزء من لوحة كبيرة لنهضة بلد بأكمله.
هذه القصص تجسد عمق الارتباط العاطفي والوجداني بالأرض والوطن، وتؤكد أن العودة إلى سوريا هي أكثر من مجرد انتقال جغرافي، إنها عودة إلى الذات، إلى الهوية، وإلى الأمل بمستقبل أفضل.



