مع تصاعد عنف المستوطنين وهجماتهم ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، تتكشف معالم مشروع خطير يهدد بقلب الحقائق على الأرض. هذا المشروع، الذي يهدف إلى إقامة ما يمكن وصفه بـ “دولة المستوطنين“، يستغل الوضع الراهن لتكريس واقع دائم يصعب التراجع عنه، خاصةً في المناطق “ج” التي تسيطر عليها إسرائيل رغم اتفاقيات أوسلو التي نصت على تسليمها للسلطة الفلسطينية. فمع تزايد عدد المستوطنين، و تصل إلى حدود 482 الف مستوطن، و تزايد الدعم السياسي و المالي لهم من قبل الحكومة الإسرائيلية، أصبحت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية محوراً أساسياً في أجندة اليمين الصهيوني، بأبعاد متعددة تتجاوز مجرد التوسع العمراني.

الجذور التاريخية والأيديولوجية لمشروع دولة المستوطنين

لا يمكن فهم مشروع دولة المستوطنين دون الغوص في جذوره التاريخية والأيديولوجية العميقة. يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن الاستيطان هو ببساطة انتقال جماعات بشرية إلى أرض ليست لهم بهدف إزاحة السكان الأصليين، وهو تعريف يكشف عن طبيعته الاستعمارية الإحلالية. هذا التعريف يسلط الضوء على أن الأمر ليس مجرد بناء منازل، بل هو محاولة لتغيير التركيبة السكانية والسيطرة على الأرض.

تستند هذه الرؤية إلى مزيج من المعتقدات الدينية والتأويلات التاريخية. ففي القرن التاسع عشر، بدأ الحاخام تسفي هيرش كاليشر في الترويج لفكرة أن خلاص اليهود يكمن في قدرتهم على بناء مجتمع يهودي قوي في فلسطين، وليس في انتظار المسيح المنتظر. هذه الفكرة شكلت أساساً للأيديولوجيا الاستيطانية التي سادت فيما بعد.

تصاعد الاستيطان في فترات حكم الليكود

أظهرت دراسات، مثل تلك التي أجراها جوزف ألفير من مركز يافي للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب، أن فترات حكم الليكود قامت بجهود مركزة لدعم وزيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية. كانت هناك تيارات مختلفة داخل الحركة الاستيطانية، منها ما كان مدفوعاً بأيديولوجيا دينية بحتة، كما في حالة حركة غوش إيمونيم، ومنها ما كان يركز على الاعتبارات الأمنية. لكن النتيجة كانت واحدة: تزايد مستمر في عدد المستوطنات والمستوطنين.

وقد تجلى هذا التصاعد في التصريحات المثيرة للجدل من قبل وزراء في الحكومة الإسرائيلية. فوزير المالية بتسلئيل سموتريتش، على سبيل المثال، صرّح علناً بـ “عدم وجود فلسطينيين” وإنما “عرب في الجوار لا يحبون عودة شعب إسرائيل إلى وطنه”، معتبرا ذلك تحقيقاً لنبوءات الكتاب المقدس. هذه التصريحات لا تعكس فقط الأيديولوجية المتطرفة لبعض المسؤولين، بل تعكس أيضاً النظرة العامة التي يتبناها الكثير من المستوطنين.

البعد الديني والاستيطان: فريضة أم مشروع سياسي؟

الاستيطان الإسرائيلي يختلف جوهرياً عن أشكال الاستيطان الأخرى في العالم، فهو يحمل بعداً دينياً قوياً. يعتمد المستوطنون على نصوص دينية مختلفة، بما في ذلك تلك الموجودة في التوراة، لتبرير استيطانهم للأراضي الفلسطينية. فهم يعتبرون ذلك “فريضة استيطان الأرض”، وهي واجب ديني على كل يهودي.

الحاخام تسفي يهودا كوك، أحد أبرز رجال الدين اليهودي، وصف إقامة دولة إسرائيل بأنها “معجزة من السماء” وتحقيقاً لفريضة استيطان الأرض. وقد تبع هذا التصريح العديد من الفتاوى الدينية التي تحث على الاستيطان والتوسع في بناء المستوطنات. هذا البعد الديني يجعل من الصعب على الكثيرين فهم أو التعامل مع المشروع الاستيطاني بمنطق سياسي أو قانوني بحت.

الأهداف التكتيكية والإستراتيجية لدولة المستوطنين

يهدف مشروع دولة المستوطنين إلى تحقيق أهداف تكتيكية وإستراتيجية على حد سواء. تتضمن الأهداف التكتيكية تغيير التركيبة الديمغرافية والجغرافية لصالح اليهود، وضم الضفة الغربية تدريجياً. أما الأهداف الإستراتيجية فتشمل ترسيخ السيطرة على “القدس الكبرى” وخلق أغلبية يهودية في المدينة.

تعتبر خطة “إي 1″، التي تهدف إلى ربط معاليه أدوميم بالقدس، أحد أبرز المخططات الإستراتيجية التي تهدف إلى قطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، وبالتالي إضعاف إمكانية إقامة دولة فلسطينية متصلة. كما أن التوسع في القدس يتماشى مع هذه الخطط، حيث تسعى إسرائيل إلى ضم الكتل الاستيطانية المحيطة بالمدينة وتغيير التركيبة السكانية فيها.

المواقف الدولية والانتقادات

المجتمع الدولي لا يعترف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ويعتبرها انتهاكاً للقانون الدولي. وقد أصدرت الأمم المتحدة العديد من التحذيرات التي تطالب بوقف الاستيطان وتفكيك البؤر غير القانونية. كما أن العديد من الدول الأوروبية دعت إلى تعليق بعض بنود الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل نتيجة للانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان المرتبطة بالاستيطان.

ومع ذلك، فإن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قدمت دعماً غير مسبوق للسياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، مما أضعف الجهود الدولية للضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان. هذا التباين في المواقف الدولية يعكس صعوبة فرض ضغوط فعالة على إسرائيل، لكنه يؤكد أيضاً على وجود إطار دولي واضح يدين الاستيطان ويدعو إلى احترام القانون الدولي.

التحديات التي تواجه دولة المستوطنين والمطلوب من الفلسطينيين

على الرغم من الدعم الذي تحظى به، يواجه مشروع دولة المستوطنين العديد من التحديات الإدارية والعملية. المستوطنات غير متماسكة داخلياً، والمسافات الطويلة بينها وبين مراكز الإدارة تعيق التنسيق وتعيق إنشاء شبكة اقتصادية وثقافية موحدة. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات قانونية تتعلق بالبؤر الاستيطانية التي شُيدت دون تراخيص رسمية.

أمام هذه التحديات، يجب على الفلسطينيين العمل على عدة جبهات. يشمل ذلك توثيق الانتهاكات أمام المحكمة الجنائية الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، واستمرار المقاومة الشعبية السلمية، وبناء خرائط فلسطينية موازية للواقع الجغرافي. كما يجب تطوير اقتصاد فلسطيني مقاوم يقلل من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي.

دولة المستوطنين ليست مجرد نتيجة لتوسع عمراني عشوائي، بل هي مشروع سياسي وأيديولوجي مدفوع بأجندات دينية وتاريخية عميقة. مواجهة هذا المشروع تتطلب وعياً عميقاً بتحدياته، وتوحيداً للجهود الفلسطينية، ودعماً دولياً فعالاً. إن مستقبل فلسطين يعتمد على قدرتنا على إحباط هذا المشروع الخطير والحفاظ على الحقوق الفلسطينية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version