الرباط صدرت دراسة حديثة للباحث المغربي في شؤون القدس الدكتور محمد رضوان تناول فيها حضور القدس في المناهج التعليمية المغربية.

وركزت الدراسة -التي نشرت في العدد الصيفي 2025 لمجلة “المقدسية” الفصلية ضمن ملف “القدس في المناهج العربية”- على مدى اهتمام الكتب المدرسية في المغرب بموقع القضية الفلسطينية والقدس، ومدى انعكاس هذا الاهتمام في مختلف مستويات التعليم، مقابل مكانة القدس الخاصة في وجدان المغاربة والأمة الإسلامية.

ويقول الأكاديمي المغربي محمد رضوان للجزيرة نت إن الاهتمام بالقدس نابع من كونها مدينة مقدسة تتعرض لسياسة تهويد واسعة تشمل طمس معالمها وهويتها الحضارية والعمرانية والدينية والتاريخية، مرتكزة على إستراتيجية الحركة الصهيونية القائمة على تسخير الإمكانات والأساليب كافة، لتجسيد حلم خرافي في إقامة وطن استيطاني يهودي بفلسطين يتخذ من القدس عاصمة “أبدية” له، بدعم من القوى الخاضعة للتأثيرات الصهيونية العالمية.

ويضيف رضوان أن هذه الدراسة تتناول موضوع القدس في المناهج الدراسية المغربية غير الجامعية، وهو موضوع لم يسبق أن شملته دراسة علمية وافية تقوم على مسح المناهج والمقررات التعليمية المغربية.

اهتمام متجذر

وقبل الحديث عن حضور القدس في المناهج التربوية توضح الدراسة أن اهتمام المغاربة بالقدس كان تاريخيا بارزا يرتبط بروابط دينية وثقافية ممتدة منذ العهود الإسلامية الأولى، وتحديدا في العصر الأيوبي عندما شارك أجداد المغاربة في جهاد صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس.

ولم تحظ أي جهة أو بقعة خارج المغرب الأقصى باهتمام واعتزاز المغاربة مثلما حظيت به القدس، حيث كان الشعب والملوك يهبّون للدفاع عنها ودعم أهلها من المرابطين المقدسيين في كل مرة تتعرض فيها للأخطار.

وعلاوة على الاحتجاجات والمساعدات كان للمغاربة دور عملي ودبلوماسي بارز في دعم القضية الفلسطينية، معتبرين القدس “أمانة عظمى” تستوجب الحماية والدفاع من كل فئات المجتمع وطبقة الحكم.

ويرصد الباحث نشأة التعليم الحديث في المغرب في أوائل القرن الـ20، متزامنا مع تطورات القضية الفلسطينية في ظل الحماية الفرنسية والانتداب البريطاني على فلسطين.

وكان الاستعمار الفرنسي يحاول فرنسة التعليم وقطع علاقة المغاربة بقضايا الأمة، في حين وجدت الحركة الصهيونية أرضا خصبة في بعض المدارس اليهودية والأوروبية.

لكن اعتداءات اليهود على المقدسات عام 1929 فجّرت موجات احتجاجات واسعة في المغرب، رافقتها جهود وطنية لإنشاء مدارس وصحف تحافظ على الهوية.

وبعد الاستقلال شرع المغرب في إصلاح شامل للمناهج الدراسية بهدف تعريب التعليم وتعزيز التربية الوطنية، مستعينا بخبرات اليونسكو لوضع نظام وطني موحد يجمع بين التعليم التقليدي والعصري.

وعلى الرغم من الجهود الرسمية والشعبية فإن الباحث يلاحظ أن هذه المكانة العالية التي تحظى بها القدس لا تنعكس بشكل كامل في المنهاج التعليمي.

حضور ضعيف

وتوضح الدراسة أن المناهج الابتدائية تخلو تماما من أي ذكر للقدس أو القضية الفلسطينية، أما التعليم الإعدادي فيعد مرحلة انتقالية مهمة، حيث تظهر إشارات محدودة للقدس والقضية الفلسطينية في بعض المواد.

وفي التعليم الثانوي -الذي يمتد لـ3 سنوات مقسمة على شعب متعددة- يخلو الجذع المشترك من أي ذكر للقدس، في حين تقتصر الإشارات على بعض نصوص في السنوات الأولى والثانية من البكالوريا، مثل نص “الطريق إلى القدس” لعبد الرحيم مودن الذي يصف المدينة بأنها “أشرف الأماكن”، إضافة إلى نصوص أدبية وفنية لغسان كنفاني وفدوى طوقان وسميح القاسم تُبرز المقاومة والتحرير وصورة قبة الصخرة كرمز مركزي.

كما تغطي مقررات التاريخ القضية الفلسطينية بعمق مع ذكر القدس في سياق جذور الصراع وتوصيات حركة عدم الانحياز.

ويكاد التربويون والمهتمون بالقضية الفلسطينية يتفقون على ضعف حضور موضوع القدس وفلسطين في المناهج التعليمية العربية رغم مكانتهما العميقة في وجدان الشعوب العربية والإسلامية وفي خطاب الحركات السياسية والثقافية.

البيت المغربي في القدس

جدل واسع

ويُبرز الباحث تباين تفسيرات هذا التراجع بين اتجاهين: الأول يراه نتيجة ضغوطات خارجية من مؤسسات تراقب وتقيم المناهج، ويربطه بمسارات التطبيع مع إسرائيل، معتبرا أن تقليص المحتوى دعم للرواية الإسرائيلية ومحاولة لطمس الهوية العربية الإسلامية للقدس.

والاتجاه الثاني يفسر الأمر بدوافع تربوية بحتة، معتبرا أن المناهج القديمة المحملة بالشعارات الوطنية والقومية لم تعد ملائمة للعصر الحديث، ولا بد من تحديثها وفق معايير جودة التعليم واحتياجات المتعلمين.

وعلى الرغم من هذه التبريرات فإن تراجع حضور القضية الفلسطينية والقدس في المناهج يظل مثار جدل واسع، خاصة في الدول التي اختارت التطبيع، حيث يرى بعض المنتقدين أن هذا التراجع هو انتهاك لحرمة القدس ومحاولة لتمرير سياسات تهويد المدينة.

وقد أثارت أخبار تزعم وجود نص في مقرر ثالث إعدادي يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل جدلا واسعا، وهو ما نفته وزارة التربية الوطنية نفيا قاطعا وأكدت عدم صحة هذه الادعاءات.

كما وصل النقاش إلى البرلمان المغربي بعد توجيه سؤال كتابي في يناير/كانون الثاني 2024 حول حذف درسيْ “القضية الفلسطينية” و”الصراع العربي الإسرائيلي” من مادة الاجتماعيات، مما دفع الوزارة إلى تأكيد عدم حذف هذين الدرسين، نافية الشائعات المنتشرة عن الموضوع.

توصيات

وتختتم الدراسة بالتأكيد على ضرورة بناء رؤية متوازنة تعكس في المناهج التعليمية دور المغرب التاريخي والرسمي في دعم القدس، وتضمن حضور القضية بشكل دائم وفاعل.

ويقترح الباحث إدراج جهود المغرب الرسمية، مثل خطب ملك المغرب محمد السادس ودور لجنة القدس ووكالة بيت مال القدس الشريف، إلى جانب الجهود العلمية والثقافية ضمن المناهج بطريقة علمية تضمن استمرارية الحضور في وجدان الأجيال، مع الاستفادة من منشورات الوكالة، مثل سلسلة “الكراسات المقدسية” التي تستهدف الأطفال والشباب، وبرامج المخيمات الصيفية التي تعزز الروابط بين أطفال القدس والمغرب.

وتؤكد الدراسة أن تعزيز حضور القدس في التعليم ليس فقط واجبا تربويا، بل أمانة تاريخية وثقافية تضمن بقاء القضية حية في الوعي الشعبي والرسمي، مما يعكس التزام المغرب الراسخ تجاه القدس وفلسطين ضمن المسار الوطني والعربي والإسلامي.

رؤية استشرافية

بدوره، يرى الخبير المغربي في تطوير المنظومات التربوية الدكتور خالد الصمدي في حديث للجزيرة نت أنه ينبغي البحث العلمي النظري والميداني في عدد من القضايا مستقبلا من أجل تشكيل رؤية واضحة وشاملة واستشرافية لحضور القدس والقضية الفلسطينية في المنظومة التربوية المغربية، بما يتلاءم مع المرجعيات الدستورية والقانونية للمملكة والتزامات المغرب الدولية، وهو ما يشكل جزءا لا يتجزأ من نصرة هذه القضية العادلة التي وعى العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى مركزيتها وأهميتها في ترسيخ العدل الإنساني وبناء السلم العالمي.

وتتمحور هذه القضايا في فحص مدى حضور قضايا الهوية والانتماء، والتربية على المواطنة وحقوق الإنسان، ومنها حضور القدس والقضية الفلسطينية في المناهج التعليمية بناء على الأسس المرجعية الواضحة، والمتمثلة بداية في حضور القدس والقضية الفلسطينية في الوجدان والتاريخ والإنجاز المغربي.

ويؤكد الدكتور الصمدي -وهو عضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي سابقا- على ضرورة البحث عن معالم من تاريخ حضور القدس والقضية الفلسطينية في المشروع التربوي المغربي، والذي يمكن استحضارها من خلال إظهار حقائق الميدانية نتيجة احتكاك المغاربة بالواقع الفلسطيني منذ منتصف القرن الماضي، سواء من خلال البعثات الطلابية المغربية في كل من فلسطين ولبنان ومصر، أو بوجود عدد كبير من المدرسين من هذا البلدان في المدارس المغربية، أو احتضان الطلبة الفلسطينيين في الجامعات المغربية.

كما يمكن إظهار حضور القدس والقضية الفلسطينية في الاحتفالات المدرسية في المناسبات الرسمية، ودراسة نماذج من الوعي المبكر للتفريق بين اليهودية بصفتها شريعة سماوية، والصهيونية الاستعمارية في الكتاب المدرسي المغربي بالتعليم الابتدائي، والاحتفال بانتصارات أكتوبر/تشرين الأول 1973 على المحتل في الاحتفالات المدرسية الرسمية.

حضور القدس

وأسهم الأكاديمي المغربي الصمدي في تقييم المناهج وتكوين الأطر والخبرات الوطنية الفلسطينية من خلال تطوير البرامج والمناهج وتكوين الخبراء عبر الاتفاقيات الثنائية وعبر برامج المنظمات الدولية المختصة في التربية والعلوم والثقافة.

ويرى ضرورة إبراز تجليات حضور القدس والقضية الفلسطينية في البرامج التعليمية للمواد الدراسية الحاملة للقيم، خاصة الكشف عن تاريخ نشأة الحركة الصهيونية وأهدافها والانتداب البريطاني ووعد بلفور ونشوء حركة المقاومة الفلسطينية دفاعا عن الأرض والمقدسات، وأيضا حضور القضية الفلسطينية في البرامج الإعلامية التربوية المغربية، وفي الإنتاجات التربوية والثقافية الموجهة للأطفال المغاربة، وفي الأنشطة الثقافية والتربوية لفائدة الأطفال المغاربة والفلسطينيين التي تنظمها وكالة بيت مال القدس في عطلة الصيف بالمغرب والتعريف بها.

ويؤكد الصمدي أن تحولات في المناهج التعليمية من النسق التقليدي إلى المدرسة الجديدة قلصت دور المدرسة والمناهج التعليمية التقليدية والكتاب المدرسي الورقي لصالح التأثير الكبير للتعلم الافتراضي والرقمي واستثمار الذكاء الاصطناعي في بناء المفاهيم والمعلومات، مما يقتضي مواكبة هذه التحولات التربوية في الاهتمام بالقضية على مستوى هذه الفضاءات الجديدة عوض التركيز على البنية التقليدية للمناهج التعليمية المدرسية.

ولبناء معالم رؤية استشرافية لاستمرار حضور قضية القدس والقضية الفلسطينية في المنظومة التربوية المغربية وتعزيزه يتبنى الدكتور الصمدي قواعد وضوابط علمية، أهمها إدماج الأسس المرجعية الدينية للقدس الشريف من خلال النصوص القرآنية والحديثية، وإدماج المعالم الكبرى لتضحيات المغاربة في القدس عبر التاريخ من خلال الوثائق الأحداث التاريخية، وإدماج التعريف بمواقف المغرب في المحطات الحاسمة من تاريخ القدس وفلسطين، والتعريف بأهمية تأسيس لجنة القدس وجهود أعمال وكالة بيت مال القدس، وبالمؤسسات التعليمية والجامعية التي أنشأها المغرب في فلسطين وما أصابها من خراب جراء العدوان والاحتلال الإسرائيلي.

ويشدد على ضرورة رفع وتيرة احتضان الطلبة الفلسطينيين في الجامعة المغربية بمختلف التخصصات من أجل تمكين الدولة الفلسطينية من كوادر مؤهلة في كل مجالات التنمية، مع تعزيز خاص للتعاون المغربي الفلسطيني في مجال تطوير الخبرات التربوية، وإدماج متوازن لثقافة المواطنة وحقوق الإنسان وقيم التعايش والتسامح بين الأديان والثقافات التي تسعى إلى ذلك، مع التوعية بأهمية مناهضة كل أشكال الظلم والطغيان والاحتلال والعدوان، والتعاون مع المنصفين من العالمين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version