باتت ساحات القتال في أوكرانيا مختبراً حقيقياً للتطورات العسكرية المتسارعة، حيث تشهد القدرات الميدانية نمواً يفوق سرعة العديد من برامج الأسلحة التقليدية. هذا الواقع دفع المحللين العسكريين إلى القول أن الابتكارات التي تنشأ في الميدان تتجاوز الجهود المشتركة التي تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا. يظهر هذا التناقض بوضوح في مشروع “فانهايم” (Vanaheim)، الذي يهدف إلى مواجهة خطر الطائرات المسيّرة الصغيرة، ولكنه يواجه تحدياً مستمراً بسبب التطور السريع للتقنيات في أوكرانيا.
مشروع “فانهايم”: سباق مع الزمن في مواجهة تهديد المُسيرات
أُطلق مشروع “فانهايم” في مارس/آذار 2025 خلال معرض الطيران الدولي في بريطانيا، كمبادرة مشتركة بين وزارة الدفاع البريطانية والجيش الأمريكي. الهدف الرئيسي هو تسريع تطوير أنظمة دفاعية مضادة للطائرات المسيّرة الصغيرة، والتي أصبحت عنصراً أساسياً في الحرب الأوكرانية، سواء في مهام الاستطلاع أو الهجمات الدقيقة. لم يكن “فانهايم” برنامج تصنيع مباشر، بل منصة اختبار ميداني لشركات متعددة، تهدف إلى اختيار وتجريب الحلول الأكثر فاعلية في مواجهة هذا التهديد المتزايد.
منصة اختبار ميداني: اختيار الحلول الأكثر كفاءة
ضمّ المشروع في مرحلته الثالثة حوالي 20 شركة تعمل في مجال أنظمة الدفاع ضد المسيّرات، حيث تم اختبار حلولها ميدانياً خلال صيف 2025. بعد تقييم دقيق، تم استبعاد معظم المشاركين، ليقتصر العدد على 8 حلول فقط، اعتُبرت الأكثر كفاءة وجدوى. هذه الحلول تمهّد الطريق لدمجها في المرحلة الرابعة من المشروع، وتجهيزها لاختبارات أوسع ضمن التمارين العسكرية القادمة. يركز “فانهايم” على التصدي للطائرات الصغيرة من الفئتين “بي-1” و”سي-1″، وهي الطائرات التي يمكن حملها باليد أو إطلاقها من مسافات قصيرة، وغالباً ما تُستخدم في هجمات دقيقة ضد المركبات والدبابات.
الطائرات المسيّرة ذات الرؤية الأولى (FPV): تحدي جديد
من بين هذه الطائرات، تبرز الطائرات المسيّرة ذات الرؤية الأولى (FPV)، وهي درونات صغيرة تُوجَّه عبر نظارات فيديو تنقل للمشغّل صورة مباشرة من منظور الطائرة. هذه التقنية تمنحها قدرة عالية على المناورة والدقة في الاستهداف، مما يجعلها تهديداً خطيراً في ساحة المعركة. تسعى الشركات المشاركة في “فانهايم” إلى تطوير أنظمة دفاعية قابلة للحمل والتركيب على المركبات الخفيفة، وتوفر استجابة فورية للتهديدات الجوية المنخفضة الارتفاع، دون الحاجة إلى دعم من وحدات الحرب الإلكترونية المتخصصة.
الرادارات النشطة والسلبية: عين “فانهايم” في السماء
تعتمد منظومة “فانهايم” على مجموعة من المكونات التقنية المتكاملة لتوفير ما يُعرف في المجال العسكري “بالوعي الميداني” ضد الطائرات المسيّرة. هذا الوعي يتضمن القدرة على رصد الدرون وتحديد نوعه، ثم تعطيله قبل أن يصل إلى هدفه. تعتمد المنظومة على شبكة من الحواس الإلكترونية التي تتكامل لتغطي كل مراحل المواجهة. من بين هذه الحواس، الرادارات الصغيرة المنخفضة الطاقة، المصممة لرصد الطائرات الصغيرة من مسافات بعيدة نسبياً، حتى في ظروف الطقس السيئة.
التكامل بين الرصد النشط والسلبي
تستخدم هذه الرادارات نوعين من التقنيات: الرادارات النشطة التي تُرسل موجات قصيرة وتقيس الإشارات العائدة، والرادارات السلبية التي تلتقط الإشارات المنبعثة من الدرون نفسه. الرصد السلبي يصعّب على الخصم معرفة مكان جهاز الكشف، بينما يوفر الرصد النشط دقة في تحديد المسافة والاتجاه. هذا التكامل ضروري لمواجهة الدرونات الصامتة، التي تُصمّم لتقليل انبعاثاتها اللاسلكية لتجنب الاكتشاف.
التهديد المتطور: طائرات هجومية تعمل بكابلات الألياف الضوئية
بعد الكشف والتصنيف، تأتي مرحلة إبطال التهديد، وغالباً ما تتم عبر التشويش على إشارات الراديو أو تعطيل نظام تحديد المواقع. لكن الجبهة الأوكرانية كشفت عن تهديد جديد لم يكن متوقعاً: استخدام القوات الروسية لطائرات هجومية من نوع الرؤية الأولى تعمل بواسطة كابلات من الألياف الضوئية، مما يجعلها محصنة ضد التشويش الإلكتروني. هذا التطور أظهر أن الابتكار في ساحات القتال يتسارع بوتيرة تفوق قدرة “فانهايم” على التكيف، مما دفع القائمين على المشروع إلى الإقرار بأنهم بحاجة إلى حلول جديدة لمواجهة هذه الدرونات غير القابلة للتشويش.
“القتل الصلب” والحلول المستقبلية
لمواجهة هذا التحدي، يتم النظر في حلول مثل استخدام كاميرات كهروبصرية، وأسلحة نارية دقيقة، ومنظومات ليزرية عالية الطاقة، وحتى إطلاق طائرات مسيّرة مصممة لاعتراض الدرون المهاجم. نظام “سينتينل” الألماني، الذي يدمج رادارات دقيقة وكاميرات بصرية وحرارية، يمثل أحد الحلول الواعدة، حيث يعتمد على شبكة من الطائرات الصغيرة لتوفير مراقبة واعتراض شاملة. على الرغم من التحديات التشغيلية واللوجستية، يمثل “سينتينل” خطوة مهمة نحو تطوير أنظمة دفاعية قادرة على التعامل مع التهديدات المتطورة في ساحات القتال الحديثة. إن مواجهة المُسيرات تتطلب حلولاً مبتكرة ومتكاملة، وهذا ما يسعى مشروع “فانهايم” إلى تحقيقه، على الرغم من التحديات المستمرة. إن التقنية العسكرية في أوكرانيا تتطور بسرعة، مما يجعل مشروع فانهايم اختباراً حقيقياً لقدرة الابتكار على مواكبة التهديدات الجديدة.


