في خضمّ التحولات السياسية والفكرية المتسارعة، تصعد وتيرة النقاش حول مستقبل القضية الفلسطينية، وتحديدًا خيار الدولة الواحدة كبديل محتمل لحل الدولتين. مؤخرًا، شهدت مدينة الناصرة في الجليل لقاءً مفتوحًا نظمته حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، جمع نخبة من المثقفين والمفكرين والأدباء من فلسطينيي 48، وذلك في إطار توسيع دائرة الحوار حول رؤيتها ومشروعها التحرري. هذا اللقاء يمثل علامة فارقة كأول نشاط من نوعه للحملة داخل الخط الأخضر، ويؤكد على سعيها لتجميع الدعم وتعزيز التعاون على مستويات مختلفة.

نشأة الحملة وأهدافها

انطلقت حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في أوائل عام 2018 من مدينة حيفا، كمبادرة مشتركة لناشطين ومثقفين وأكاديميين فلسطينيين ويهود. تهدف الحملة إلى إنهاء ما تعتبره “نظامًا استعماريًا صهيونيًا” وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية، دولة تضمن المساواة والعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لجميع سكانها، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية. تعتبر الحملة أن هذا النموذج هو السبيل الأمثل لتحقيق العيش المشترك المتكافئ للفلسطينيين واليهود الإسرائيليين.

استعراض الإنجازات والتحديات

خلال اللقاء المفتوح، استعرضت الحملة إنجازاتها منذ تأسيسها، والتحديات التي واجهتها في مسيرتها. تطرق النقاش إلى ضرورة التحول من الواقع القائم الذي وصفه المشاركون بالإبادة والتهجير المستمرين، إلى أفق الدولة الواحدة كهدف استراتيجي. كما ركزت المناقشات على أهمية “المستوطن الرافض للاستعمار”، ودوره المحتمل في تفكيك البنى الكولونيالية التي تأسست عليها إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، حلل المشاركون تأثير انهيار أنظمة الفصل العنصري (الأبارتايد) في الماضي على مستقبل إسرائيل والمنطقة، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجارب في ترسيخ نموذج الدولة الواحدة. لم يُغفل النقاش دور القانون الدولي في دعم هذه الرؤية الشاملة، والخطوات اللازمة لنيل الاعتراف بها.

دور فلسطينيي 48 في المشروع السياسي

أكد المشاركون على الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه فلسطينيي 48 في صياغة حل سياسي عادل وشامل. فهم يعتبرون حلقة وصل مهمة بين مختلف مكونات الشعب الفلسطيني، ويتمتعون بفهم عميق للتحديات والفرص المتاحة داخل إسرائيل. ويعتقدون أنهم قادرون على المساهمة في بناء قاعدة شعبية واسعة لدعم خيار الدولة الواحدة، من خلال العمل على تغيير الوعي العام، وتكوين تحالفات مع القوى التقدمية اليهودية التي ترفض الاحتلال والاستعمار.

رؤية حول جدوى حل الدولة الواحدة مقابل حل الدولتين

قدم عوض عبد الفتاح، أحد المبادرين والمؤسسين لحملة الدولة الديمقراطية الواحدة، رؤية شاملة حول هذا الخيار، مبرزًا أن حل الدولتين لم يعد واقعيًا في ظل السياسات الإسرائيلية المتعنتة التي ترفض أي تسوية حقيقية تنهي الصراع. ويرى عبد الفتاح أن مشروع الدولة الواحدة يمثل بدلًا سياسيًا وأخلاقيًا، وأن قبول هذا الخيار من قبل الإسرائيليين ليس مسألة اختيارية، بل هو نتيجة حتمية للنضال المستمر.

وفي رد على سؤال حول إمكانية قبول الإسرائيليين لهذا الحل وهم يرفضون حتى حل الدولتين، صرّح قائلاً: “لا يوجد شعب مستعمر يتنازل عن الامتيازات التي سلبها إلا تحت الضغط والإرغام. وتجربة جنوب أفريقيا مثال واضح على سقوط نظام الأبارتايد بالنضال والكفاح، وهذا هو الطريق الذي يجب أن يفرض في فلسطين التاريخية.” وأضاف أن التحولات العالمية وجيل الشباب الدولي يظهران تضامنًا متزايدًا مع الفلسطينيين، مما يعزز من حضور مشروع الدولة الواحدة كجزء من حركة عالمية أوسع نطاقًا.

حرب غزة والفرصة التاريخية

ترى الباحثة الفلسطينية في الاقتصاد السياسي، الدكتورة ليلى فرسخ، أن حرب الإبادة على غزة قد أعادت الصراع إلى نقطة البداية، تمامًا كما كانت في نكبة 1948. لكنها تؤكد أن السياق التاريخي الحالي مختلف، وأن التعاطف العالمي المتزايد مع الفلسطينيين يخلق فرصة حقيقية لترويج مشروع الدولة الواحدة. وتشير إلى أن الواقع الحالي في فلسطين التاريخية يعكس بالفعل دولة واحدة تمارس نظامًا من التمييز العنصري والاستعمار، حيث تسيطر إسرائيل على كل الأرض. وتضيف أن هذا النظام قد لا يكون مقبولًا أو مستدامًا على المدى الطويل، وأن البديل الوحيد هو إقامة دولة ديمقراطية تقوم على المساواة والعدالة.

الواقع على الأرض: دولة المستوطنين

أوضح عالم الأنثروبولوجيا جيف هالبر، الذي تحول إلى ناشط مناهض للاستيطان، أن السياسات الإسرائيلية الاستيطانية قد فرضت “أمرًا واقعًا” في الضفة الغربية، وأن “دولة المستوطنين” أصبحت حقيقة لا يمكن إنكارها. ويعتبر أن حل الدولتين أصبح مجرد سراب، وأن مشروع الدولة الواحدة هو الحل الوحيد الذي يمكن أن ينهي الصراع ويضمن حقوق الفلسطينيين.

نحو تفكيك النظام الاستعماري

يناقش المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية، إيلان بابيه، أننا نعيش بالفعل في واقع الدولة الواحدة، لكنها دولة قائمة على الأبارتايد والإبادة. ويؤكد على ضرورة العمل على تفكيك هذه الدولة، وإلغاء الغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، وضمان حقه في تقرير المصير. ويشير إلى أن هذا يتطلب تغييرًا جذريًا وانهيارًا للنظام الاستعماري الإسرائيلي. ويرى أن هذا الوضع المتطرف يخلق فرصة تاريخية لمشروع حملة الدولة الواحدة، الذي يمكن ترويجه على نطاق عالمي.

في الختام، يمثل اللقاء الذي نظمته حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في الناصرة خطوة مهمة في مسيرة النضال الفلسطيني. وتؤكد المناقشات التي جرت خلاله على أن خيار الدولة الواحدة لم يعد مجرد طرح نظري، بل أصبح ضرورة ملحة في ظل الفشل الذريع لحل الدولتين، وأن حقوق الإنسان والمساواة والعدالة هي الأساس الذي يجب أن تقوم عليه أي تسوية عادلة وشاملة. وسيبقى هذا الحوار مفتوحًا ومستمرًا، بهدف الوصول إلى رؤية واضحة وموحدة لمستقبل فلسطين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version