في مقهى على شاطئ غزة، وبينما كان رواده يحتسون أكواب القهوة، ويتنسمون عبير البحر الأبيض المتوسط، ويتجاذبون أطراف الحديث، إذ بطائرة حربية إسرائيلية تحيل المكان بمن فيه وما فيه إلى رماد في لحظة خاطفة.

ففي مساء يوم 30 يونيو/حزيران المنصرم، ألقت تلك الطائرة قنبلة ضخمة أميركية الصنع على مقهى الباقة المطل على البحر، فقتلت أكثر من 30 شخصا وأصابت العشرات بجروح مختلفة. ولم تقتصر الكارثة على ذلك، فقد امتد نطاق الانفجار الواسع ليتسبب في دمار عشوائي للحي المجاور المكتظ بالسكان، وألحق أضرارا بالمدنيين العُزّل من الرجال والنساء والأطفال وكبار السن.

كان من بين الضحايا طلاب وعمال وصحفيون وفنانون ومدنيون نازحون، يحاولون التشبث بما تبقى لهم من حياة طبيعية، ويترقبون سماع أنباء عن وقف محتمل لإطلاق النار، بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت.

وقد قال خبراء قانونيون إن هذا الهجوم انتهك القانون الدولي بموجب اتفاقيات جنيف وربما يشكل جريمة حرب.

شاهد عيان يروي مشاهد استهداف استراحة الباقة عند ميناء بمدينة غزة

“جئنا به إليك لتودعيه”

روى الناجون من تفجير مقهى الباقة، وأحباء الشهداء، لموقع إنترسبت الأميركي قصصا عن الهجوم الإسرائيلي. ومن بين الناجين، مهندسة في 23 من عمرها، تُدعى علا عبد ربه، خُطبت منذ فترة قصيرة لنسيم سبها (28 عاما)، الذي كان يجلس بجانبها في المقهى.

وقالت عنه علا: ” اختار أن يرافقني خلال الحرب ليخفف ألمي ويضيء ظلامي”. وفي تلك الأمسية، وكعادة المخطوبين، خرجا في نزهتهما الأسبوعية حيث جلس نسيم إلى جانبها وأمارات البهجة والفرح تشع من وجهه.

كان المقهى يعج بالنشاط، أناس هناك يقرؤون ويشحنون هواتفهم، وآخرون يحضرون دروسا على الإنترنت، وجميعهم يستمتعون بلحظات عابرة من الحياة الطبيعية.

تقول علا عن نسيم: “كلما اضطررنا للحديث عن الموت، كان يقول لي بهدوء: “لا تخافي، لا تحزني، طالما نحن معا، إذا حصل لنا أي شيء فسنذهب معا”.

وفجأة من غير سابق إنذار، دوّى انفجار هائل وتحوّل المقهى إلى ركام وغبار. تلاشت الصرخات واستحالت إلى صمت مخيف لم يقطعه سوى أنين نسيم المؤلم، وسقط الاثنان أرضا. تمزقت ساق علا، وكان جرحها ينزف، والتفتت نحو خطيبها، وتوسلت إليه قائلة: “أرجوك كن بخير، لا تتركني، لا تمت”.

كان الدم ينزف من ظهر نسيم، قبل أن تنقله سيارة إسعاف إلى المستشفى، وتحاملت علا على إصابتها وتبعت السيارة. وعندما وصلت إلى المستشفى، سألت علا ابنة عم نسيم: “هل استشهد؟”. فأجابتها ابنة عمه وعيناها مغرورقتان بالدموع: “نعم، لقد جئنا به إليك لتودعيه”.

“لم تكن ابنة عمي فقط، كانت أختي”

منى ورغد شابتان مفعمتان بالحياة والوعود، كانت منى طالبة هندسة محبوبة؛ وكانت رغد طالبة صيدلة.

تحدثت هيا جودة (23 عاما) لموقع إنترسبت عن ابنة عمها منى (21 عاما)، كما لو كانت شقيقتها. قالت “لقد نشأنا معا، وكانت تشاركني كل ذكرياتي”.

ذهبت منى وصديقتها رغد أبو سلطان (21 عاما) في يوم الهجوم إلى المقهى فقط لتستنشقا هواء منعشا، وعندما وصلت أنباء القصف إلى أفراد عائلة منى بحث عنها والدها بفزع، ولكن عندما ظهر اسم صديقتها رغد على قائمة القتلى تغير كل شيء.

وفي وقت لاحق من تلك الليلة، جاء التأكيد النهائي: “لقد قُتلت منى”.

“كانت متشبثة بكل ما هو جميل”

تعرفت مريم صلاح (30 عاما) على آمنة السالمي (36 عاما) من خلال عملها فنانة رقمية، حيث كان كثيرون يعرفونها باسم “فرانس”، وهو لقبها منذ الطفولة. وكانت الصديقتان تعيشان معا في مخيم الشاطئ بغزة.

وفي حديثها لإنترسبت، قالت مريم عن صديقتها آمنة: “لم تكن مجرد فنانة بارعة فقط، لقد كانت حالمة، كانت تتحدث دائما عن السفر وبناء مسيرة مهنية”.

التقت مريم وفرانس قبل أسبوع أو أسبوعين فقط، عندما شاركتا في حدث عام للرسم يضم جدارية بعنوان “تكريما للحمار”، وهو عمل ساخر. كانت فرانس تعمل في الفن الرقمي، وكانت قد شاركت مؤخرا في مشروع سرد قصص مصورة مع الصحفي إسماعيل أبو خطاب (30 عاما). فقد كان عملهما شكلا من أشكال المقاومة الثقافية.

وتعتقد مريم أن هذا المشروع هو ما دفع فرانس وإسماعيل إلى الذهاب للمقهى يوم الهجوم الإسرائيلي، بينما بقيت هي في المنزل. كانت أختها هي من اتصلت بها على عجل، لتسألها إن كانت هناك، لأنها علمت أن العديد من الفنانين -من بينهم إسماعيل وفرانس- اعتادوا التردد على المكان. قالت مريم: “فتحت هاتفي وكان أول اسم رأيته هو إسماعيل”.

حاولت مريم الاتصال بفرانس دون جدوى، لكن أحدهم أخبرها بما كانت تخشاه: “لقد استُشهدت فرانس”.  وكان آخر أعمال فرانس الفنية رسما لأطفال في أكفان.

“لم أعد أشعر بالأمان”

كان محمد نعيم (23 عاما) -خريج كلية الحقوق ويسكن بيت حانون– من بين الناجين من القصف الإسرائيلي في تلك الأمسية، حيث كان جالسا على طاولته المفضلة مع صديقه، مستعدا لالتقاط غروب الشمس في غزة والاستمتاع بجمال البحر. أخرجه صديقه من تركيزه ليلفت نظره إلى سفينة حربية بحرية كانت تمخر عباب الماء في الأفق، وسأله: “هل تعتقد أن من في السفينة يعلمون أننا مجرد أبرياء نحاول أن نعيش حياتنا؟”

وقبل أن يكمل نعيم إجابته، جذبته قوة بدت وكأنها تمزق روحه من جسده، ودفعته لمسافة 5 أمتار. وقال “حاولت النهوض، لكنني لم أكن مدركا بأنني أُصبت… لم أر سوى ساق صديقي بالكاد ملتصقة بباقي جسده. أوصلته إلى سيارة إسعاف نقلته إلى المستشفى”.

ولا يزال نعيم يتعافى من إصابته، لكن الجرح النفسي أعمق. وقال بعد ذلك: “لم أعد أشعر بالأمان في أي مكان حتى بالقرب من البحر”.

“صباح الخير أيها الموتى”

في صباح 30 يونيو/حزيران الماضي، ذهبت الصحفية بيان أبو سلطان إلى المقهى. قالت: “ذهبت من أجل لحظة من السلام الزائف، لأتنفس، لأشعر بأنني طبيعية، حتى لو ساعة واحدة فقط”.

تتذكر بيان تلك الوجوه المألوفة واللحظات الهادئة التي سبقت الانفجار. كان الوقت بعد الظهر بقليل حين وصل صديقها محمد أبو شمّالة، فلم يريا بعضهما البعض منذ شهرين، فأغلقت كتابها للتحدث، وأشارت نحو البحر وقالت: “السفن الحربية قريبة جدا اليوم”! لكنهما تجاهلا ذلك، ففي غزة، كل شيء قد يبدو روتينيا، إلى أن يقع ما يحمد عقباه.

وعندما مزّق الانفجار المفاجئ المقهى، طُرِحت بيان أرضا، وزحفت تحت طاولة لتحمي نفسها ، فحماها صديقها محمد من الشظايا. وعندما رفعت رأسها، رأت ساقا مبتورة وامرأة شابة تحتضر بجانبها، وجسدي صديقيها فرانس وإسماعيل بلا حراك على الطاولة حيث كانا يبتسمان قبل لحظات، لقد تحول المقهى المألوف إلى ساحة حرب.

بدت بيان تائهة ومرتبكة وهي تترنح لتشق طريقها بين الركام بحثا عن هاتفها لتتصل بالإسعاف. لم تكن تدرك أنها مصابة إلا عندما أشار أحدهم إلى الدماء وهي تسيل من رأسها. وبينما كانت تسير نحو طواقم الإسعاف بخطى متثاقلة ليس بسبب جراحها، بل لما رأته من جثث أشخاص كانت قد ألقت عليهم قبل سويعات فقط تحية الصباح، فقد شعرت بالعجز لأنها لم تستطع إنقاذ أحبائها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version