في تصعيد غير مسبوق، نفذ الاحتلال الإسرائيلي خلال الأيام الماضية ضربات عسكرية استهدفت مواقع للجيش السوري في مدينة السويداء، دعما للفصائل الدرزية المحلية التي تخوض منذ أيام مواجهات مفتوحة مع قوات الجيش والأمن السوري.

ولم يقتصر التدخل الإسرائيلي هذه المرة على استهداف آليات الجيش السوري في الجنوب، بل توسعت رقعة القصف لتشمل مقر قيادة هيئة الأركان في العاصمة دمشق، مما أدى إلى تدميره ووقوع عدد من الضحايا، في رسالة واضحة تتجاوز حدود السويداء إلى عمق القرار السياسي والعسكري السوري.

فهل تنبع هذه السياسة من اعتبارات دينية وطائفية متجذرة؟ أم أنها تعبير عن إستراتيجية أمنية ترسمها إسرائيل لحماية حدودها وإعادة تشكيل خريطة النفوذ في الجنوب السوري؟

عاجل| لحظة قصف مبنى هيئة الأركان السورية في دمشق

“حلف الدم”.. تحالف عقائدي يُلزم إسرائيل بالدروز

لا يقتصر الدعم الإسرائيلي للفصائل الدرزية في السويداء على اعتبارات سياسية أو أمنية فحسب، بل يرتكز -في جزء منه- إلى ما يُعرف في الأوساط الدرزية والإسرائيلية بـ”حلف الدم”، وهو تعبير متجذر في الوعي الجمعي للطائفة الدرزية داخل إسرائيل، ويمتد برمزيته إلى دروز سوريا ولبنان أيضا.

وفقا للرواية المتداولة داخل الأوساط الدينية الدرزية، فإن “ميثاق الدم” بين اليهود والدروز تأسّس منذ خروج بني إسرائيل من مصر، في اللقاء الذي جمع النبي موسى بشعيب -الذي يُعد في التقليد الدرزي أحد أبرز أركان العقيدة التوحيديةـ وهو ما يُضفي بعدا روحيا على العلاقة، ويجعل الالتزام بها أقرب إلى “عهد حياة” لا مجرد تحالف مصلحي عابر، وذلك حسب دراسة صادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

وحسب الدراسة التي نشرت بعنوان “تشكيل هوية أقلية متصهينة: الحالة الدرزية في إسرائيل”، فقد نشأ ما يُعرف بـ”حلف الدم” بين إسرائيل والدروز عام 1956 بدعوة من ديفيد بن غوريون، حين تم توقيع اتفاق مع 16 قياديا درزيا لفرض الخدمة الإلزامية على الدروز في جيش الاحتلال، في حين استُثني العرب المسلمون والمسيحيون من ذلك.

ورغم المعارضة الواسعة داخل المجتمع الدرزي، فإن الاتفاق أُقر بدعم بعض القيادات التي رأت في ذلك فرصة لتحسين موقع الطائفة ضمن النظام الإسرائيلي. ومع مرور الوقت، خدم الدروز في وحدات خاصة ثم في ألوية قتالية، وتقلد بعضهم مناصب رفيعة، من أبرزهم غسان عليان.

وتعود هذه العلاقة إلى رؤية صهيونية قديمة تعتبر الدروز مختلفين عن باقي العرب ويمكن التحالف معهم ضد الأغلبية المسلمة، حسب دراسة سياسية للباحث غابرييل بن دور.

وقد عاد هذا المفهوم بقوة إلى الواجهة مع اشتداد المواجهات في السويداء، حيث اجتمعت القيادات الروحية والسياسية للطائفة الدرزية في إسرائيل، وعلى رأسها الشيخ موفق طريف، ووجّهت انتقادات علنية للحكومة الإسرائيلية بسبب “تقاعسها عن نصرة الأشقاء الدروز في سوريا”، معتبرة أن الصمت الرسمي يشكل “خيانة لحلف الدم القائم بين إسرائيل والدروز”.

وتشير مصادر إعلامية إسرائيلية إلى أن قيادات درزية إسرائيلية بحثت إمكانية إدخال مجموعات من شباب الطائفة الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي إلى داخل الأراضي السورية بهدف “القتال إلى جانب الدروز هناك” في حال استمرار ما وصفوه بـ”العدوان الحكومي على السويداء”.

وفي سياق متصل، صرح مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -الثلاثاء 15 يوليو/تموز الجاري- بأن إسرائيل “ملتزمة بمنع إلحاق الأذى بالدروز في سوريا، انطلاقا من التحالف الأخوي العميق مع مواطنينا الدروز في إسرائيل، وروابطهم العائلية والتاريخية معهم”.

توظيف سياسي للطائفة

لم تكن العلاقة بين إسرائيل والدروز علاقة شراكة متكافئة بقدر ما كانت –في كثير من محطاتها– جزءا من سياسة مدروسة لتفتيت الهوية العربية الجامعة، عبر منح امتيازات لطوائف بعينها وتوظيفها في خدمة مشروع السيطرة الإسرائيلية، سياسيا وعسكريا وأمنيا.

ومنذ تأسيس دولة إسرائيل، سعى بن غوريون إلى إعادة تشكيل البنية الاجتماعية للعرب داخل فلسطين المحتلة، من خلال التفريق بين مكوناتها العرقية والدينية، وقد نال الدروز النصيب الأكبر من هذه السياسات، حيث مُنحوا وضعا قانونيا خاصا، وفُرضت عليهم الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، في حين أُعفي منها اليهود المتدينون وبعض الأقليات الأخرى.

وتؤكد دراسات مثل تقرير “معهد فان لير” في القدس (2015) أن هذا التمييز المقنن للدروز أنتج هوية درزية إسرائيلية هجينة، جرى توظيفها في سياقات سياسية وأمنية متعددة، بينما ظلّت الطائفة تُستبعد فعليا من مراكز التأثير الحقيقية داخل الدولة.

وفي هذا السياق، يشير الباحث في الشؤون الإسرائيلية خالد الخليل إلى أن “إسرائيل حرصت منذ الخمسينيات على فصل الدروز عن محيطهم العربي والإسلامي، وكرست هذا الفصل قانونيا ومؤسساتيا، ليس بهدف الاندماج، بل لأجل الاستخدام السياسي والأمني للطائفة”.

ويضيف الخليل للجزيرة نت أن السياسات الإسرائيلية سعت إلى خلق طائفة “مُميزة” داخل المجتمع العربي، تُعامل بشكل مختلف لتكون أداة في مشروع السيطرة والتفتيت، وهو ما انعكس لاحقا في التعامل مع دروز الجولان، وامتد اليوم إلى فصائل السويداء.

ممر داوود.. التوسع باسم حماية الطائفة

يرتبط التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري، تحت شعار “حماية الدروز”، برؤية أيديولوجية أعمق تُعرف في الأدبيات الصهيونية بـ”ممر داوود”؛ وهو امتداد إستراتيجي يتماشى مع مفهوم “إسرائيل الكبرى”، المستند إلى تفسيرات توراتية تُنسب إلى ثيودور هرتزل، وتُحدّد حدود إسرائيل الموعودة من نهر النيل إلى نهر الفرات.

المشروع هو شريط جغرافي ضيق يمتد عبر قلب المشرق يبدأ من مرتفعات الجولان المحتلة في الجنوب الغربي، ويمر بالمحافظات السورية الجنوبية المحاذية لإسرائيل والأردن، وهي القنيطرة ودرعا، ثم يتسع شرقا عبر السويداء في جبل حوران ويدخل البادية السورية باتجاه معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية العراقية الأردنية.

ومن خلال هذا المشروع تصبح السويداء، عبر المكون الدرزي، حلقة في هذا “الممر الرمزي”، الذي يُراد له أن يتجسد سياسيا وجغرافيا في واقع المنطقة.

يتكامل هذا الطموح مع ما تُعرف بـ”عقيدة المحيط” الإسرائيلية، إذ تعود هذه العقيدة إلى تأسيس إسرائيل عام 1948، حيث واجهت دولة الاحتلال تحديات تتعلق بغياب العمق الإستراتيجي وقلة السكان، مما دفع قادتها، وفي مقدمتهم بن غوريون، لوضع إستراتيجية تقوم على بناء تفوق عسكري مدعوم غربيا، مع اعتبار الدول العربية المجاورة مصادر تهديد وجودي.

و تطورت هذه العقيدة فيما بعد، كما يكشف ضابط الاستخبارات ديفيد بن عوزيل في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت، وأصبحت تقوم على ركيزتين:

  • الحزام الأول: إشعال الصراعات بين الدول العربية وجيرانها غير العرب (مثل تركيا أو إيران)، لإضعافها واستنزافها في نزاعات جانبية لا تخص إسرائيل.
  • الحزام الثاني: استغلال الأقليات في المنطقة، خصوصا قرب فلسطين، بعزلهم عن محيطهم وربط أمنهم بأمن إسرائيل، مما يدفعهم للتحالف معها بدافع الخوف.

ووفق هذه الرؤية، يرى مراقبون أن التدخل الإسرائيلي في السويداء لم يأت بوصفه استجابة إنسانية كما تدعي دولة الاحتلال، بل لكونه جزءا من إستراتيجية أوسع لإعادة تشكيل الجغرافيا السورية بما يخدم مصالح إسرائيل الأمنية والتوسعية، مستثمرة في مكونات اجتماعية تتعرض لتهميش أو توتر سياسي، وتحويلها إلى أدوات نفوذ إقليمي في لحظة انهيار المركز.

يذكر أنه إضافة إلى الطائفة الدرزية، سبق لإسرائيل أن حاولت فتح قنوات مع الأكراد والعلويين، من خلال تقديم أشكال مختلفة من الدعم السياسي والعسكري والإعلامي، في إطار إستراتيجية تهدف إلى تقويض المركزية السياسية في دمشق، وتثبيت واقع الانقسام.

أهداف سياسية

لا تبدو الغارات الإسرائيلية الأخيرة على دمشق، ولا التدخل غير المسبوق في الجنوب السوري، مجرد تحركات عسكرية عابرة، بل تحمل -حسب التصريحات الإسرائيلية- رسائل سياسية واضحة تستهدف الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي تنظر إليه تل أبيب بعين التوجس، وتتهمه بالانتماء إلى تيار “جهادي” ضمن المؤسسة الحاكمة الجديدة في سوريا.

ويرى محللون أن الدعم الإسرائيلي للطائفة الدرزية في السويداء يأتي في سياق إستراتيجية ضغط متعددة المستويات، تهدف إلى تعزيز موقع الحلفاء المحليين كالدروز قبيل أي ترتيبات سياسية أو أمنية محتملة في الجنوب، وإضعاف السلطة المركزية الجديدة عبر خلق بؤر اضطراب طائفي ومناطقي.

إضافة فرض معادلات تفاوضية جديدة من موقع القوة، خاصة أن إسرائيل، حسب الباحث السياسي موسى الجناطي، “تفاوض دائما تحت النار وتحت الضغط لتحقق مكاسب أكبر”.

ويؤكد الجناطي -للجزيرة نت- أن إسرائيل تريد توظيف الورقة الدرزية في المفاوضات المرتقبة مع دمشق الجديدة، من أجل تثبيت مكاسبها الأمنية والجغرافية في الجولان وقمم جبل الشيخ وضمان استمرار وجودها العسكري في 9 مواقع داخل الأراضي السورية.

ويضيف أن إسرائيل “لا يمكن أن تتخلى عن الجولان”، ولذلك تسعى إلى تصعيد الضغوط السياسية والعسكرية على الحكومة السورية والشعب السوري، لدفعهم إلى تقديم تنازلات تتعلق بالجغرافيا والأمن والمياه.

في المقابل، حذّرت القوى الدرزية الوطنية في الداخل الفلسطيني من خطورة الزج بالدروز في هذه المواجهة، إذ قالت “لجنة المبادرة الدرزية” إن “إسرائيل تحاول فرض اتفاقيات أبراهام على سوريا الجديدة وفق شروطها، وتسعى لجرّ الدروز إلى معركة ليست لهم، مستغلة وجود مسلحين سوريين يمهّدون لهذا السيناريو”.

من جهته، خرج الرئيس السوري أحمد الشرع في خطاب متلفز ليؤكد أن “الدروز جزء أصيل من النسيج السوري”، متعهدا بحماية حقوقهم، ومتهما إسرائيل بالسعي إلى “خلق الفوضى في سوريا وتفكيك وحدة شعبها بعد سقوط النظام البائد”.

نتنياهو.. وحساباته الشخصية

لا يبدو التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري مجرد تحرك أمني لحماية الطائفة الدرزية كما يروّج له الخطاب الرسمي في تل أبيب، بل يراه مهتمون بالشأن الإسرائيلي أنه يأتي في سياق حسابات شخصية وسياسية لنتنياهو، الذي يحاول استثمار الموقف لتحقيق مكاسب متعددة، في الداخل الإسرائيلي وعلى الساحة الدولية.

وفي تصريح لافت، قال نتنياهو إن حكومته تتبنى سياسة “لنزع السلاح” من المنطقة الممتدة جنوب دمشق وصولا إلى جبل الدروز، مضيفا: “لن نسمح للقوات العسكرية بالنزول جنوب دمشق، ولن نسمح بإلحاق الأذى بالدروز في جبل الدروز”.

لكن وراء هذا الحرص المعلن على الدروز، يقرأ مدير مركز تقدم للحوار وبناء السلام عبد الله غضوي أن له دافعا أعمق يتمثل في سعي نتنياهو لتحسين صورته أمام المجتمع الدرزي داخل إسرائيل، خاصة الجنود الدروز في الجيش الإسرائيلي الذين يتزايد نفوذهم وتأثيرهم.

ويضيف الغضوي -في حديثه للجزيرة نت- أن نتنياهو يحاول، في مواجهة الانتقادات الدولية المتصاعدة، تقديم نفسه كرجل “سلام” يدافع عن الأقليات وحقوق الإنسان، رغم أن الواقع -خصوصا في غزة- يُكذب هذا الخطاب، حيث تتهم حكومته بارتكاب جرائم ممنهجة قد ترقى إلى الإبادة، دفعت محكمة العدل الدولية إلى مطالبات باتخاذ إجراءات احترازية ضد إسرائيل.

أما الباحث في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى، فيشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن نتنياهو مدفوع أيضا بعُقدة شخصية تتعلق بمحاكم الفساد التي تلاحقه، إذ يسعى جاهدا لتسجيل إنجازات تُعيد له مجده السياسي وتُبعد عنه وصمة العار القضائية، في ظل قناعة راسخة لديه بأنه “أعظم قائد في تاريخ إسرائيل”.

بهذا المعنى يبدو واضحا أن التدخل الإسرائيلي في السويداء يتحول -إضافة إلى أهدافه التفاوضية مع دمشق- إلى ورقة في معركة نتنياهو الشخصية، أكثر من كونه استجابة أخلاقية أو تحركا إنسانيا، في ظل حكومة يزداد افتقارها إلى الشرعية أمام الداخل الإسرائيلي والعالم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version