بيروت- مع تصاعد التوتر في الجنوب السوري وتوغل قوات الاحتلال الإسرائيلي بمحاذاة السويداء، تُطرح في لبنان علامات استفهام حول مصير النقاط الخمس التي لا تزال إسرائيل تحتلها في الجنوب، وإذا ما كان هذا الوجود سيتحول إلى “حزام أمني” دائم يعيد للأذهان تجربة الشريط الحدودي السابقة.

وبين ما يوصف بـ”الورقة الدرزية” التي تحاول تل أبيب استثمارها، والهواجس من ترسيخ واقع جغرافي جديد يمتد من جبل الشيخ، وصولا إلى الحدود اللبنانية، تتعدد القراءات حول الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل، وإذا ما كانت تسعى لفرض معادلة أمنية بديلة تعيد رسم قواعد الاشتباك في المنطقة.

ورقة الأقليات

ويرى الكاتب والمحلل السياسي بشارة شربل أن إسرائيل لن تُفوِّت ما تُعتبر “فرصة إستراتيجية نادرة” تتمثل في ظهور أقلية دينية تطلب دعمها، لتُقدّم نفسها كحامية للأقليات في المنطقة، ولتؤكد أن “يهودية الدولة” لا تمنع منح طائفة مثل الدروز وضعا خاصا داخلها أو إقامة علاقة مباشرة معها.

ويضيف للجزيرة نت أن التوغل الإسرائيلي الأخير جنوب البلاد يُبدد إلى حد كبير الاعتقاد بأن اللقاءات الثلاثية السورية الإسرائيلية السابقة انتهت إلى تفاهمات تضمن وحدة الأراضي السورية.

وقد تقدّمت القوات الإسرائيلية -يتابع شربل- نحو قرى لا تبعد أكثر من 20 كيلومترا عن دمشق، واقتربت من معبر المصنع على الحدود اللبنانية السورية، مما يمنحها قدرة على السيطرة على المنطقة الجنوبية الشرقية المحاذية للبنان، وهي منطقة تعد امتدادا طبيعيا لجبل الشيخ وتضم بلدات درزية، متجاوبة مع دعوات الشيخ حكمت الهجري في جبل العرب للمطالبة باستقلال السويداء وفتح ممر نحو إسرائيل.

ويُحذِّر من أنه إذا منحت إسرائيل أولوية لترسيخ وجودها في الجنوب السوري، وواصلت انخراطها في الشأن الدرزي رغم موقف السلطة السورية الجديدة، فإن المخاوف تتعاظم من أن تتشبث بالتلال اللبنانية الخمسة المحتلة، معتبرة تواصلها الجغرافي مع مواقعها في جبل الشيخ ضرورة إستراتيجية.

ويعتقد شربل أن ذلك قد يدفع إما لتشجيع نزعة درزية مشتركة بين سوريا ولبنان نحو حكم ذاتي، أو لتكريس منطقة عازلة تُكسب إسرائيل عمقا أمنيا إضافيا، خاصة في ظل تداعيات “طوفان الأقصى” و”حرب الإسناد” -التي شنها حزب الله دعما لغزة– بما يضمن لها إبعاد أي قوة معادية مسافة تحول دون مفاجأتها عسكريا أو أمنيا.

“أحزمة أمنية”

من جانبه، قال المحلل السياسي أمين قمورية -للجزيرة نت- إن إسرائيل بعد الحرب الأخيرة ألغت فعليا الحدود مع لبنان وسوريا، مشيرا إلى أن قصفها العنيف في سوريا دمَّر جانبا كبيرا من قوة الجيش السوري، ووجه في الوقت نفسه ضربات قاسية لحزب الله.

ويرى أن الجيش اللبناني ما زال يفتقر للتدريب والتسليح والدعم الكافي، وهو عاجز عن مواجهة مباشرة مع القوات الإسرائيلية، والوضع في سوريا لا يختلف كثيرا، مضيفا أن تحركات إسرائيل في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا تكشف عن سياسة جديدة تقوم على السيطرة على نقاط محددة وتحويلها إلى مرتكزات أمنية يمكن أن تتطور لاحقا إلى “أحزمة أمنية”.

كما أن الإستراتيجية الإسرائيلية -بحسب قمورية- لم تعد قائمة على المواجهات العسكرية الواسعة أو الحروب الشاملة، بل على إنشاء أحزمة أمنية تستند إلى قدراتها الذاتية، وتفصل بينها وبين ما تعتبره جبهاتها الداخلية، وأن هذا المشروع -برأيه- يُمثِّل اليوم أحد أهم رهانات إسرائيل.

وأشار إلى أن الضغوط الأميركية المرتبطة بهذا الملف غير كافية، مشددا على أن إسرائيل لا تلتزم بالقرار 1701 الذي يطالب بانسحابها، ويُفترض أن تُطبِّقه قوات دولية أو اللجنة الأمنية العليا، بل إنها لم تلتزم حتى باتفاق وقف إطلاق النار.

وختم قمورية قائلا إن “النقاش الدائر حول مستقبل قوات اليونيفيل قد يفتح المجال أمام إسرائيل لتكريس وجودها عبر إقامة خطوط فصل فعلية، مما يعزز مشروع الأحزمة الأمنية بين حدودها الداخلية وبين لبنان وسوريا، معتبرا أن هذا المشروع وارد جدا، وأن ما يُقال بخلاف ذلك لا يحمل الكثير من الواقعية”.

مخططات إسرائيل

بدوره، قال الخبير العسكري العميد حسن جوني -للجزيرة نت- إن تمسُّك إسرائيل بما تُعرف بـ”النقاط الخمس” في جنوب لبنان يتجاوز مجرد خلاف حدودي، بل يعكس مشروعا أوسع يقوم على رؤية إسرائيلية لتحويل هذه المنطقة إلى حيز صناعي واقتصادي خالٍ من السكان، بما يجعلها بمثابة “منطقة عازلة” تفصل بين القرى الجنوبية والحدود.

وأوضح أن المعطيات المتداولة في الأيام الأخيرة تشير إلى توجه نحو إقامة مشاريع اقتصادية في تلك الرقعة، مما يتيح لإسرائيل الحفاظ على وجود دائم فيها حتى مع طرح سيناريوهات الانسحاب الجزئي.

ويضع جوني هذه الرؤية في إطار ما يسميها “نظرية الأمن الإسرائيلي الجديدة”، القائمة على إنشاء مناطق عازلة على الحدود، سواء في لبنان أو في سوريا.

وفي قراءته للمشهد السوري، يرى الخبير العسكري أن المشروع الإسرائيلي يبدو أكثر اتساعا وعمقا، مستفيدا من هشاشة الاستقرار والتحولات السياسية هناك، إضافة إلى خصوصية الجنوب السوري الديمغرافية، لا سيما في السويداء وعلاقة دروزها بدروز إسرائيل.

وحسب جوني، تعمل إسرائيل على صياغة “حزام أمني” واسع يشمل 3 محافظات: الجولان ودرعا والسويداء.

أما في لبنان، فيشير إلى أن الجغرافيا الضيقة والتنوع الديمغرافي يفرضان قيودا مختلفة، بحيث لا يمكن إقامة منطقة عازلة عميقة كالتي تُرسم في سوريا، غير أن التسريبات -وفق جوني- تتحدث عن مساع لتحويل هذه المنطقة إلى فضاء اقتصادي أو سياحي خال من السكان، مع بقاء إسرائيلي في بعض النقاط الإستراتيجية داخلها.

ويخلص إلى أن ما يجمع بين المشروعين في لبنان وسوريا هو هدف واحد: تكريس مناطق خالية من السلاح، خاضعة لمراقبة دائمة، تؤمّن حدود إسرائيل، مع حضور مباشر لقواتها خلف خطوط التماس.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version