في ظلام دامس على عمق يقارب 4 كيلومترات تحت سطح المحيط الهادي، حيث لا يصل أي ضوء وتتحرك الحياة على فتات قليل من الغذاء يسقط من الأعلى، بدأت قصة تشبه اقتحام “أرشيف حيوي” لم يُفهرَس بعد. هذا الاكتشاف يثير تساؤلات حول تأثير تعدين الأعماق على التنوع البيولوجي البحري، وهو ما أصبح محور اهتمام متزايد للعلماء والمنظمات البيئية.

هناك، في المنطقة الواقعة بين هاواي والمكسيك والمعروفة بمنطقة كلاريون كليبرتون، أجرى باحثون مسحا واسعا للحياة القاعية بالتوازي مع اختبار شبه صناعي لماكينة جمع “العُقَد متعددة المعادن”، تلك الحصى المعدنية الغنية بعناصر كيميائية مهمة، مطلوبة للبطاريات وتقنيات التحوّل الأخضر. تعتبر هذه المنطقة من المناطق الواعدة لاستخراج المعادن، ولكنها أيضًا موطن لمجموعة متنوعة من الكائنات الحية التي لم يتم دراستها بشكل كامل.

تعدين الأعماق يكشف عن عالم حيوي مجهول

لكن المفارقة أن التجربة لم تُخرج معادن فقط، ولكن على مدار 5 سنوات من العمل وقرابة 160 يوما في البحر، جمع فريق من العلماء عينات من رواسب القاع ورصد كائنات يزيد حجمها عن 0.3 مليمتر، أي أكبر قليلا من فتات الغبار البحري الذي تلتقطه المصافي العلمية. هذا المسح الشامل كشف عن ثراء بيولوجي غير متوقع في هذه المنطقة.

والنتيجة كانت لافتة، حسب دراسة نشرها الفريق في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشن”، حيث تعرف العلماء على 4350 فردا، من 788 نوعا، كثير منها غير معروف أو مسجّل علميا. هذا العدد الكبير من الأنواع يبرز أهمية هذه المنطقة كموقع للتنوع البيولوجي.

أحد تلك الكائنات اللافتة كان “العنكبوت البحري”، وهو كائن ينتمي إلى مجموعة قريبة من عناكب اليابسة، لكنه ليس واحدا منها بالمعنى التصنيفي الدقيق. هذه الكائنات الغريبة تعيش في بيئة فريدة من نوعها وتتطلب المزيد من البحث لفهم سلوكها وتطورها.

بعض أنواع العناكب البحرية يمكن أن تبلغ حجم كف اليد في أعماق البحر المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، بينما هذا النوع المعروض في الدراسة لا يتجاوز بضعة مليمترات فقط، وهو تذكير بأن عالم الأعماق يمكن أن يجمع بين الكائنات العملاقة والمتناهية الصغر في المشهد نفسه.

الكشف عن التنوع البيولوجي

هذه الأرقام وحدها تبدد فكرة أن سهول الأعماق صحراء مائية خاملة، بل إن الباحثين وجدوا أن الكائنات الأكثر حضورا هي الديدان عديدة الأشواك، ثم قشريات دقيقة، ثم رخويات مثل القواقع وبلح البحر، وهو مجتمع متنوع. يشير هذا إلى وجود شبكة غذائية معقدة تعتمد على مصادر طاقة مختلفة.

القلب الصلب للدراسة كان اختبارا ميدانيا عام 2022 لماكينة تجميع كبيرة في السهل السحيق على عمق 4280 مترا، تمكنت من استرجاع أكثر من 3 آلاف طن من العُقَد الصخرية المتعددة المعادن. يهدف هذا الاختبار إلى تقييم الجدوى التقنية والاقتصادية لتعدين الأعماق.

بالتزامن مع ذلك، اهتم فريق من العلماء بدراسة تأثير الماكينة على البيئة، ووجد بالفعل أن نسبة كثافة الكائنات في تلك المنطقة انخفضت بنحو 37%، وتراجع عدد الأنواع بنحو 32%. هذه النتائج تثير مخاوف بشأن الأضرار البيئية المحتملة لتعدين الأعماق.

تأثير التعدين على البيئة

اللافت أن الدراسة رصدت أيضا أن المجتمع القاعي لم يكن ثابتا أصلا، هناك تغيرات طبيعية معتبرة عبر فترة الرصد، يرجّح الباحثون أنها مرتبطة بتقلب كمية الغذاء الهابط إلى القاع. فهم هذه التغيرات الطبيعية أمر بالغ الأهمية لتقييم تأثير التعدين بشكل دقيق.

هذا مهم لأن التعدين لا يحدث في مختبر معزول، بل فوق نظام يتنفس ببطء ويتقلب دون أن نراه، وأحد أكبر مخاوف العلماء من استخراج المعادن من قاع البحر هو الغبار الطيني الذي قد تثيره الماكينات، ثم يترسّب بعيدا عن موقع التعدين. هذا الغبار يمكن أن يؤثر على الكائنات الحية التي تعيش في مناطق بعيدة عن موقع التعدين.

في هذا السياق، فإن الدراسة الجديدة تقول إن تعدين الأعماق يمثل مشكلة يجب الالتفات إليها، فنحن نستخرج معادن من مكان لا نعرف حدوده الحيوية، ولا نمتلك فكرة عما يعيش هناك. تؤكد الدراسة على الحاجة إلى إجراء المزيد من البحوث قبل البدء في عمليات التعدين واسعة النطاق.

من المتوقع أن يناقش المجلس الدولي للمحيطات (ISA) نتائج هذه الدراسة وغيرها من الدراسات ذات الصلة في اجتماعاته القادمة، بهدف وضع إطار تنظيمي لتعدين الأعماق يضمن حماية البيئة البحرية. من المرجح أن يتم اتخاذ قرارات مهمة بشأن هذا الموضوع بحلول نهاية عام 2026، ولكن لا يزال هناك الكثير من عدم اليقين بشأن كيفية تنظيم هذه الصناعة الجديدة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version