في قلب مجرة بعيدة، اكتشف علماء الفلك ظاهرة كونية مذهلة تتعلق بـالثقوب السوداء. دراسة حديثة كشفت أن هذه الأجسام السماوية العملاقة لا تكتفي بابتلاع المادة المحيطة بها، بل يمكنها أيضًا إطلاق رياح كونية فائقة السرعة، مما يؤثر بشكل كبير على تطور المجرات. هذا الاكتشاف الجديد يغير فهمنا لطبيعة هذه الوحوش الكونية وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها.
اعتمدت الدراسة، التي نشرت في دورية “أسترونومي أند أستروفيزكس”، على رصد غير مسبوق باستخدام القمر الصناعي الياباني الأمريكي “إكس آر آي إس إم”. نجح هذا القمر الصناعي في التقاط لحظة انطلاق الرياح القوية بالقرب من أفق حدث الثقب الأسود، مما يوفر بيانات قيمة حول هذه الظاهرة الغامضة.
رصد رياح الثقوب السوداء الفائقة السرعة
يشرح الباحث ليي جو، من منظمة أبحاث الفضاء الهولندية، أن هذه الرياح فائقة السرعة هي عبارة عن تيار قوي من الغاز يُقذف بعيدًا عن الثقب الأسود قبل أن يُبتلع. هذه الرياح تتحرك بسرعات مذهلة قد تصل إلى خُمس سرعة الضوء، وتحمل كميات هائلة من الطاقة إلى المجرة المضيفة، وهي طاقة كافية لإعادة تشكيل مصير المجرة بأكملها.
ولرصد هذه الرياح الكهرومغناطيسية غير المرئية، استخدم العلماء الأشعة السينية. تعتبر الأشعة السينية أداة أساسية في هذا النوع من الرصد، حيث أن الرياح فائقة السرعة لا تُرى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات الضوئية، بل تترك بصمات طيفية دقيقة جدًا.
كيف يتم رصد هذه الرياح؟
يقول جو أنهم يكتشفون هذه الرياح عبر البحث عن بصمات محددة في أطياف الأشعة السينية، مثل خطوط الامتصاص والانبعاث. من خلال قياس مقدار انزياح هذه الخطوط عن مواقعها الطبيعية، أي تأثير دوبلر، يمكنهم حساب سرعة الرياح بدقة.
تأثير دوبلر، كما هو معروف في الفيزياء، يفسر التغير في تردد الموجة (سواء كانت ضوئية أو صوتية) بسبب حركة المصدر بالنسبة للمراقب. في حالة الرياح الصادرة من الثقب الأسود، فإن انزياح الخطوط الطيفية يكشف عن سرعة الغاز المنطلق.
لاحظ العلماء خطوطًا طيفية ظهرت فجأة ثم اختفت خلال فترة زمنية قصيرة للغاية، مما يشير إلى اندفاع ريح عنيفة ثم تلاشيها بسرعة. بلغت سرعة الاندفاع قرابة 57 ألف كيلومتر في الثانية، وهي سرعة مذهلة تكشف عن قوة هذه الظاهرة.
الآلية الفيزيائية وراء الرياح الكونية
يشير جو إلى أن الآلية المحتملة وراء إطلاق هذه الرياح تكمن في إعادة الاتصال المغناطيسي. تتراكم الخطوط المغناطيسية حول الثقب الأسود مع دوران المادة، مما يزيد التوتر المغناطيسي. في النهاية، تنقطع هذه “الحبال” المغناطيسية الملتوية فجأة، مطلقةً طاقتها في شكل ريح قوية.
هذه العملية مشابهة لتلك التي تطلق الرياح الشمسية والانفجارات الإكليلية من الشمس، ولكن على نطاق أكبر بكثير. توضح هذه الدراسة أن الفيزياء التي تحكم الظواهر الكونية يمكن أن تكون متشابهة في جوانبها الأساسية، بغض النظر عن حجم الجسم المعني.
ومع ذلك، يوضح جو أنه لا يمكن الجزم بأن جميع الرياح الصادرة من الثقوب السوداء مدفوعة مغناطيسيًا. في بعض الحالات، خاصةً مع الثقوب السوداء الأكثر سطوعًا، قد يكون الدافع الرئيسي هو ضغط الإشعاع الشديد للأشعة فوق البنفسجية والسينية.
تأثير الثقوب السوداء على المجرات
تعتبر هذه الرياح فائقة السرعة قادرة على حمل طاقة كافية للوصول إلى أطراف المجرة، مما قد يؤثر على تشكل النجوم. يمكن لهذه الرياح أن تطرد الغاز اللازم لتكوين النجوم، وبالتالي تقلل من معدل ولادة النجوم في المجرة.
يشير هذا إلى أن الثقوب السوداء قد تلعب دورًا تنظيميًا في نمو المجرات. فإذا زاد نشاط الثقب الأسود، أطلق رياحًا تمنع ولادة النجوم، وإذا هدأ، سمح للمجرة بالازدهار. هذا التوازن الغامض قد يكون أحد أسرار تطور المجرات عبر الزمن.
تعتبر هذه الدراسة خطوة مهمة نحو فهم أفضل لطبيعة الثقوب السوداء وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها. مع استمرار تطور التكنولوجيا الفلكية، من المتوقع أن يتمكن العلماء من رصد المزيد من هذه الظواهر الغامضة، مما سيساعدهم على كشف المزيد من أسرار الكون.
في المستقبل القريب، سيستمر العلماء في تحليل البيانات التي جمعها “إكس آر آي إس إم” ومراصد أخرى، بهدف تحديد مدى شيوع هذه الرياح الفائقة السرعة وتأثيرها على تطور المجرات. كما سيتم تطوير نماذج نظرية جديدة لمحاولة تفسير الآليات الفيزيائية التي تكمن وراء هذه الظاهرة، مما قد يؤدي إلى اكتشافات جديدة في مجال علم الفلك.



