على سواحل جنوب أفريقيا، وفي برك ضحلة متغيرة الملوحة، توجد تكوينات صخرية فريدة تُعرف باسم “الميكروبيولايت”. هذه الهياكل ليست مجرد صخور، بل هي أنظمة حية بناها كائنات مجهرية على مدى عصور طويلة، وتلعب دورًا مهمًا في امتصاص الكربون من البيئة، مما يجعلها محور اهتمام متزايد في سياق أزمة المناخ وتغير المناخ.
دراسة حديثة، نشرت في دورية “نيتشر كومينيكيشنز” في 18 ديسمبر 2025، كشفت عن قدرة هذه الميكروبيولايت على امتصاص كميات كبيرة من الكربون وحبسه في صورة كربونات الكالسيوم، وهي مادة معدنية مستقرة تدوم لفترة طويلة. هذا الاكتشاف يفتح آفاقًا جديدة لفهم دور هذه النظم البيئية في تنظيم دورة الكربون على كوكبنا.
ماصات الكربون: الميكروبيولايت وآلية الامتصاص
يكمن الإبهار في هذه التكوينات في قدرة البكتيريا المكونة لها على “تمعدن” الكربون. هذه العملية تعني تحويل الكربون المذاب إلى كربونات صلبة، وبالتالي إزالته من الدورات البيئية السريعة التي قد تعيده إلى الغلاف الجوي كغاز ثاني أكسيد الكربون. هذا الترسيب المعدني المستقر يمثل حلاً طبيعيًا محتملاً لتخفيف آثار الاحتباس الحراري.
تُشبه آلية العمل تلك التي تقوم بها الشعاب المرجانية، إلا أنها تتم بواسطة مجتمعات ميكروبية متنوعة. تعمل هذه الكائنات الدقيقة على امتصاص الكربون وترسيب معادن، مما يؤدي إلى تراكم طبقات متتابعة على مر الزمن، مبنية على نشاطها الحيوي.
تشير تقديرات الدراسة إلى أن الميكروبيولايت يمكن أن تمتص ما يصل إلى 9 إلى 16 كيلوغرامًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًا لكل متر مربع. هذا الرقم كبير جدًا نظرًا لطبيعة هذه النظم البيئية الصغيرة والموجودة في ظروف بيئية قاسية.
وفقًا للباحثين في “مختبرات بيغيلو لعلوم المحيطات”، فإن مساحة بحجم ملعب تنس مغطاة بهذه التكوينات يمكن أن تمتص ما يعادل امتصاص 3 أفدنة من الغابة سنويًا لثاني أكسيد الكربون. هذا يوضح مدى كفاءتها في عملية امتصاص الكربون.
ليلا ونهارا: التمثيل الضوئي وغير الضوئي
كشفت الدراسة الجديدة أيضًا عن جانب مثير للاهتمام: عملية امتصاص الكربون في هذه الميكروبيولايت لا تعتمد فقط على التمثيل الضوئي، الذي يتوقف عند غياب ضوء الشمس (ليلاً). بل تدعمها آليات أخرى لا تتطلب الضوء، مما يعني أن هذه النظم يمكن أن تستمر في امتصاص الكربون على مدار الساعة.
يُعزى هذا إلى التنوع الوظيفي داخل المجتمعات الميكروبية، حيث توجد كائنات قادرة على استخدام مسارات أيضية مختلفة لامتصاص الكربون، بغض النظر عن توافر الضوء.
أهمية علمية وآفاق مستقبلية
لا يقتصر أهمية هذا الاكتشاف على كونه حلاً محتملاً لتخفيف آثار الاحتباس الحراري. بل إنه يمثل أيضًا خطوة مهمة في فهم تاريخ الأرض ودور الكائنات الحية الدقيقة في تنظيم دورة الكربون على مدى مليارات السنين. الميكروبيولايت تمثل واحدة من أقدم أشكال الحياة البناءة على كوكبنا، وتوفر رؤى قيمة حول العمليات البيولوجية والكيميائية التي شكلت بيئتنا.
مع ذلك، من المهم التأكيد على أن الميكروبيولايت لا تمثل حلاً سحريًا لمشكلة تغير المناخ. فالاعتماد عليها وحدةً كافية لتعويض الانبعاثات العالمية يتطلب مساحات شاسعة وظروفًا بيئية مناسبة، وهو أمر غير واقعي على المدى القصير.
في الوقت الحالي، تكمن القيمة العملية الرئيسية في حماية هذه النظم البيئية الفريدة، حيث تقدم خدمة بيئية حقيقية من خلال امتصاص الكربون. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للباحثين استلهام آليات عملها لتطوير تقنيات جديدة لالتقاط الكربون وتخزينه.
يشير خبراء المناخ إلى أن الخطوة التالية قد تتضمن تطوير تقنيات “التمعدن الحيوي” التي تحاكي هذه العمليات الطبيعية لالتقاط ثاني أكسيد الكربون في مفاعلات صناعية أو أحواض مخصصة بحلول عام 2030. هذه التقنيات لا تزال في مراحلها المبكرة، ولكنها تحمل وعودًا كبيرة في مكافحة تغير المناخ. من الأمور التي يجب مراقبتها أيضًا، تطوير إنزيمات أو ميكروبات محددة لتسريع عملية ترسيب الكربونات، والاستدامة البيئية لهذه التقنيات.


