قبل أكثر من قرن من الزمان، عجز علماء الآثار والكيمياء عن تحديد طبيعة مواد لزجة ذات رائحة نفاذة عُثر عليها داخل مقبرة الفرعون الشاب توت عنخ آمون. الآن، وباستخدام تقنيات تحليلية حديثة، تقترح دراسة حديثة أن هذه المواد الغامضة قد تكون مرتبطة بـالأفيون ومستحضراته، مما يفتح نافذة جديدة على الممارسات الطبية أو الدينية في مصر القديمة.
نُشرت هذه الدراسة في مجلة “جورنال أوف إيسترن ميديتيرينيان أركيولوجي”، وتستند إلى تحليل مزهرية أثرية مصنوعة من الألباستر، والتي تحتوي على آثار كيميائية تتطابق مع تلك الموجودة في نبات الخشخاش المسبب لـالأفيون. هذه المزهرية، الموجودة في متحف بيبودي بجامعة ييل، تحمل أهمية خاصة بسبب التشابه في مادة الصنع مع الأواني التي وُجدت في مقبرة توت عنخ آمون.
اكتشاف بقايا الأفيون في مزهرية أثرية نادرة
تتميز المزهرية قيد الدراسة بنقوشها الأربعة بلغات قديمة مختلفة: الأكادية، العيلامية، الفارسية، والمصرية. تشير النقوش إلى أنها كانت هدية من الملك الفارسي خشايارشا الأول، الذي حكم من عام 486 إلى 465 قبل الميلاد، وهي فترة شهدت توسع الإمبراطورية الأخمينية لتشمل مصر. يضيف هذا البعد التاريخي أهمية خاصة للاكتشاف.
تعتبر المزهرية تحفة فنية نادرة، حيث لا يتجاوز عدد المزهريات المصرية المنقوشة المصنوعة من الألباستر والتي بقيت سليمة حتى يومنا هذا عشرة قطع حول العالم. سعة المزهرية تبلغ حوالي 1200 ملليلتر وارتفاعها 22 سنتيمتراً، مما يشير إلى أنها كانت تستخدم لاحتواء كمية كبيرة من السائل.
منهجية البحث وتقنيات التحليل
اعتمد فريق البحث من جامعة ييل على منهجية علمية دقيقة تتألف من ثلاث مراحل رئيسية. شملت المرحلة الأولى استخراج البقايا العضوية من داخل المزهرية باستخدام تقنية “التحريك بالمذيب الساخن”، وهي طريقة غير مدمرة تتيح الحصول على عينات نقية دون إلحاق الضرر بالقطعة الأثرية. تعتبر هذه الطريقة أقل ضرراً من تقنيات الغليان التقليدية، والتي تستخدم عادة للشظايا الصغيرة فقط.
في المرحلة الثانية، تم تحضير العينات المستخرجة كيميائياً لضمان دقتها وجاهزيتها للتحليل. تضمنت هذه العملية تركيز العينة وإجراء تعديلات كيميائية لزيادة تطاير الجزيئات وتحسين استقرارها. أما المرحلة الثالثة، وهي الأكثر حسماً، فقد تم خلالها فصل المركبات الكيميائية وتحليلها باستخدام تقنية الكروماتوغرافيا الغازية المرتبطة بمطياف الكتلة (GC-MS)، وهي تقنية تعتبر المعيار الذهبي في هذا المجال.
نتائج التحليل وتحديد البصمة الكيميائية
كشفت نتائج التحليل عن وجود خمسة مركبات كيميائية رئيسية مرتبطة بـالأفيون: المورفين، النوسكابين، البابافيرين، الثيبائين، والهيدروكوتارنين. تشير هذه النتائج بقوة إلى أن المزهرية كانت تحتوي على مستحضرات مشتقة من نبات الخشخاش.
يذكر المهندس المعماري والباحث في علم المصريات بسام الشماع أن استخدامات الأفيون في مصر القديمة كانت على الأرجح لأغراض طبية وليس الترفيهية، مستندًا إلى النصوص الطبية القديمة مثل بردية إيبرس، والتي تتضمن وصفات علاجية تعتمد على الخشخاش. بالإضافة إلى ذلك، وجدت آثار للأفيون في أواني فخارية وفي مقبرة شخص عادي في منطقة سدمنت، مما يشير إلى انتشاره بين مختلف الطبقات الاجتماعية.
الآثار المترتبة على هذا الاكتشاف ومستقبل البحث
يثير هذا الاكتشاف تساؤلات جديدة حول الدور الذي قد يكون لعقاقير مثل الأفيون لعبته في الطقوس الدينية أو الممارسات الطبية في مصر القديمة. بالنظر إلى القيمة الدينية والرمزية لمقبرة توت عنخ آمون، قد يكون للأفيون دور في مراسم التحنيط أو الاحتفالات الجنائزية.
وبالنظر إلى المواد الموجودة في مقبرة توت عنخ آمون، يرى الباحثون أن تقنيات جامعة ييل يمكن أن تساعد في تحديد هوية المواد الغامضة التي تم العثور عليها داخل الأواني والمزهريات الأخرى في المقبرة. قد يكشف المزيد من التحليلات عن تفاصيل إضافية حول استخدام الأفيون في مصر القديمة.
من المتوقع أن يستمر فريق البحث في تحليل عينات إضافية من القطع الأثرية المصرية القديمة باستخدام نفس المنهجية. سيتم التركيز بشكل خاص على القطع التي تم العثور عليها في مقبرة توت عنخ آمون، بهدف الحصول على فهم شامل لاستخدام الأفيون والمستحضرات المشتقة منه في تلك الحقبة التاريخية. ستستغرق هذه العملية بضعة أشهر أخرى قبل أن يتم التوصل إلى استنتاجات نهائية.



