منذ القدم، سعى الإنسان لفهم الكون واختزاله في قوانين بسيطة. هل يمكن اختزال تعقيد الوجود بثوابت قليلة؟ هذا السؤال المحوري شغل بال فيزيائيين وفلاسفة لعقود، وما زال يثير الجدل حتى اليوم. تناول هذا المقال مسألة أساسية في الفيزياء الحديثة: عدد الثوابت الفيزيائية الضرورية لوصف الكون، وكيف تطور هذا النقاش عبر الزمن.
جدل الثوابت الفيزيائية: كم رقمًا نحتاج حقًا؟
بدأ كل شيء في عام 1992، خلال نقاش عابر بين ثلاثة علماء بارزين في مركز سيرن: غابرييل فينيزيانو، وليف أوكون، ومايكل داف. كان النقاش يدور حول عدد الأرقام التي نحتاجها لوصف الكون بدقة. اقترح فينيزيانو أن نظرية الأوتار قد تتطلب ثابتين فقط، بينما أصر أوكون على أن ثلاثة ثوابت ضرورية. أما داف، فذهب إلى أبعد من ذلك، قائلاً إنه لا نحتاج إلى أي ثوابت على الإطلاق.
تحول هذا النقاش العرضي إلى حوار مستمر امتد لعقود، وتعمق في طبيعة الواقع نفسه. فالسؤال عن عدد الثوابت ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو سؤال فلسفي عميق حول ما هو أساسي في الكون وما يمكن اعتباره مشتقًا.
الثوابت الأساسية: سرعة الضوء، ثابت بلانك، والجاذبية
تقليديًا، اعتمدت الفيزياء على ثلاثة ثوابت أساسية: سرعة الضوء (c)، وثابت بلانك (h)، وثابت الجاذبية (G). سرعة الضوء، التي كشفت عنها معادلة أينشتاين الشهيرة، تربط الطاقة بالكتلة. أما ثابت بلانك، فهو أساس ميكانيكا الكم، ويربط بين طاقة الموجة وترددها. وثابت الجاذبية يحدد قوة التجاذب بين الأجسام.
هذه الثوابت ليست مجرد أرقام عشوائية؛ إنها تحدد الخصائص الأساسية للكون الذي نعيش فيه. ومع ذلك، يرى البعض أن هذه الثوابت قد تكون مجرد نتيجة لكيفية قياسنا للكون، وليست خصائص جوهرية فيه.
هل يمكن تقليل عدد الثوابت؟
جادل مايكل داف بأن الثوابت ذات الأبعاد، مثل سرعة الضوء وثابت الجاذبية، تعتمد على وحدات القياس التي نستخدمها. فإذا اخترنا وحدات مختلفة، ستتغير قيم هذه الثوابت. لذلك، اقترح أن الثوابت اللابعدية، التي لا تعتمد على وحدات القياس، هي الأكثر جوهرية.
وبحسب داف، يمكن وصف الكون باستخدام ثابت واحد فقط، وهو تردد ساعة ذرية. وهذا يعني أننا لسنا بحاجة إلى ثلاثة ثوابت، بل إلى أداة قياس واحدة فقط: ساعة دقيقة.
التحديات والقيود
على الرغم من أن فكرة الاختصار هذه تبدو جذابة، إلا أنها تواجه بعض التحديات. ففي عالم ميكانيكا الكم، تفرض مبادئ عدم اليقين حدودًا على دقة القياسات. كلما حاولنا قياس الزمن بدقة أكبر، كلما تطلب ذلك طاقة أكبر، مما قد يتسبب في انهيار الساعة إلى ثقب أسود.
كما أكد جواو ماغييجو من كلية إمبريال كوليدج في لندن، أن النقاش حول عدد الثوابت الفيزيائية قد يكون انعكاسًا لـ “تحيزاتنا النظرية” الخاصة. وأن ما نعتقده اليوم قد يتغير مع تقدم المعرفة.
مستقبل البحث عن الثوابت الأساسية
لا يزال البحث عن الثوابت الأساسية للكون مستمرًا. يجري العلماء حاليًا المزيد من التجارب والدراسات النظرية لتقييم فكرة تقليل عدد الثوابت. من المرجح أن يلعب تطوير نظرية الجاذبية الكمية دورًا حاسمًا في هذا الصدد. من المتوقع أن تقدم لنا هذه النظرية فهمًا أعمق لطبيعة الزمكان، وقد تكشف عن وجود ثوابت جديدة أو تبين أن بعض الثوابت الحالية ليست أساسية حقًا. يبقى السؤال مفتوحًا: هل سنكتشف في نهاية المطاف أن الكون أبسط بكثير مما كنا نعتقد، أم أن تعقيده يتطلب المزيد من القياسات الفيزيائية؟ هذا ما ستكشف عنه الأبحاث المستقبلية.
إن البحث عن الثوابت الكونية يمثل تحديًا مستمرًا للفيزيائيين، ويدفعهم إلى استكشاف أعمق وأكثر شمولية لطبيعة الواقع.


