خلف شوارع برلين الصاخبة وواجهات المدن الألمانية الحديثة، تكمن طبقة خفية من التاريخ، عبارة عن شبكة معقدة من المخابئ السرية والأنفاق التي بُنيت خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945). هذه الممرات الخرسانية الضخمة لم تكن مجرد هياكل، بل كانت شريان الحياة للملايين من المدنيين الذين سعوا للاحتماء من القصف الجوي المدمر. اليوم، تفتح هذه المواقع أبوابها للزوار، مقدمةً تجربة فريدة وغامرة في قلب تاريخ الحرب، وتتيح لهم فهمًا أعمق لمعاناة وصمود الشعب الألماني.
رحلة عبر الزمن: استكشاف المخابئ السرية في ألمانيا
لم تكن ألمانيا بمنأى عن ويلات الحرب العالمية الثانية، بل كانت مسرحًا رئيسيًا للعديد من المعارك والغارات الجوية. ونتيجة لذلك، استثمرت الحكومة النازية، ثم المدن الألمانية، بشكل كبير في بناء ملاجئ للحماية المدنية. هذه المخابئ السرية لم تكن مجرد غرف بسيطة، بل كانت أنظمة معقدة مصممة لاستيعاب أعداد كبيرة من الأشخاص وتوفير الحماية من القصف لفترات طويلة. تختلف هذه المخابئ في تصميمها وحجمها وموقعها، لكنها تشترك جميعًا في هدف واحد: إنقاذ الأرواح.
برلين: الغوص في أعماق التاريخ تحت الأرض
تعتبر برلين من أكثر المدن الألمانية التي تعرضت للقصف خلال الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك، بُنيت في المدينة شبكة واسعة من الملاجئ، بعضها لا يزال موجودًا حتى اليوم. جمعية “برلين تحت الأرض” (Berlin Underworlds) تقدم جولات استثنائية داخل أكبر هذه المخابئ السرية التي شيدت خلال الحقبة النازية.
جولة “من أبراج المضادات إلى جبال الأنقاض”
تعد جولة “من أبراج المضادات إلى جبال الأنقاض” (Von Flaktürmen zu Trümmerbergen) الأكثر شهرة، حيث تأخذ الزوار في رحلة عبر ثلاثة طوابق من أصل سبعة، على عمق يتجاوز 15 مترًا تحت سطح الأرض. خلال هذه الجولة، يتعرف الزوار على قصص مؤثرة للمدنيين الذين عاشوا تحت القصف، وكيف تمكنوا من البقاء على قيد الحياة في ظل هذه الظروف القاسية. تجدر الإشارة إلى أن درجة الحرارة داخل هذه الأنفاق لا تتجاوز 10 درجات مئوية حتى في فصل الصيف، لذا يُنصح بارتداء ملابس دافئة وأحذية مريحة. تستغرق الجولة حوالي 90 دقيقة، وتكلفتها 17 يورو.
هامبورغ: مخبأ “برلينر تور” – شهادة على “عملية غوموراه”
في شمال ألمانيا، وتحديدًا تحت محطة مترو هامبورغ، يقع مخبأ “برلينر تور” (Berliner Tor). هذا المخبأ العميق، الذي بُني عام 1940 على عمق 11 مترًا وجدران بسمك مترين، كان ملاذًا آمنًا لحوالي 800 شخص خلال الغارات الجوية المدمرة التي شهدتها هامبورغ عام 1943، والمعروفة باسم “عملية غوموراه” (Operation Gomorrah).
تُشرف جمعيات توثيق الحرب على هذه الجولات المحدودة العدد، مما يتيح للزوار فرصة فريدة لتجربة الحياة تحت الأرض كما عاشها المدنيون خلال تلك الفترة المأساوية. الوصول إلى المخبأ سهل عبر المترو، والرحلة من برلين تستغرق حوالي ساعة و45 دقيقة. هذه المواقع التاريخية تقدم منظورًا فريدًا حول الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على المدن الألمانية.
بون: مخبأ الحكومة وسر الحرب الباردة
بالقرب من بون، في وادي آر، يقع متحف موقع توثيق مخبأ الحكومة في أهرفايلر (Dokumentationsstätte Regierungsbunker Ahrweiler). هذا الموقع ليس مجرد مخبأ من الحرب العالمية الثانية، بل هو جزء من مجمع ضخم يمتد على طول 17 كيلومترًا من الأنفاق الخرسانية المتداخلة، والذي بُني خلال فترة الحرب الباردة.
اليوم، يمكن للزوار استكشاف حوالي 200 متر فقط من هذه الأنفاق، بما في ذلك غرف القيادة وأجهزة الاتصالات وتجهيزات الطوارئ كما كانت في الستينيات. تكلفت تذكرة الدخول حوالي 15 يورو، مع وجود خصومات للطلاب وكبار السن. الوصول إلى الموقع سهل من فرانكفورت أو كولونيا عبر القطار السريع، ثم الانتقال إلى قطار إقليمي إلى أهرفايلر. هذا الموقع يلقي الضوء على جانب آخر من التاريخ الألماني، وهو الاستعداد للحرب المحتملة خلال فترة الحرب الباردة.
تجربة استثنائية وذاكرة خالدة
تتوالى الإشادات من الزوار على منصات مثل “تريب أدفايزر” و”غوغل”، حيث يصفون هذه الرحلات بأنها مهيبة وواقعية. هذه المخابئ السرية ليست مجرد مواقع تاريخية، بل هي شهادات حية على الصمود والنجاة في وجه الخطر. إنها تسمح للزائرين بفهم عميق لتأثير الحرب على المدنيين، وأهمية الشجاعة اليومية في زمن الأزمات.
زيارة هذه الأنفاق ليست مجرد رحلة ترفيهية، بل هي رحلة ثقافية وتاريخية تغوص بك في أعماق الماضي الألماني، لتروي قصة المدن التي ناضلت من أجل البقاء والنهضة بعد الدمار. إنها فرصة للتأمل في دروس التاريخ، وتقدير قيمة السلام والأمن. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر هذه الجولات وسيلة ممتازة للتعرف على السياحة في ألمانيا من منظور مختلف.


