في عام 2027، تستعد البشرية للعودة إلى القمر، في مهمة تحمل معها ليس فقط إنجازًا علميًا، بل أيضًا أبعادًا جيوسياسية متزايدة الأهمية. هذه العودة ليست مجرد تكرار لخطوات سابقة، بل هي بداية سباق فضاء جديد، يذكرنا في تعقيداته وتنافسه بالحرب الباردة، مع إعادة التسلح، وتشكيل تحالفات القوى، وتصاعد التوترات بين الشرق والغرب. يشكل الهبوط على القمر اختبارًا للريادة التكنولوجية والقوة الناعمة، ويعد بتشكيل مستقبل استكشاف الفضاء واستغلال موارده.

برنامج أرتميس: بوابة العودة إلى القمر

تعتبر مهمة العودة إلى القمر جزءًا لا يتجزأ من برنامج أرتميس الطموح الذي تقوده وكالة ناسا الأمريكية. تتولى الولايات المتحدة زمام المبادرة، لكن نجاح البرنامج يعتمد بشكل كبير على الشراكات الدولية، وعلى رأسها وكالة الفضاء الأوروبية (ESA).

من المقرر أن تشهد مهمة أرتميس 2 في النصف الأول من عام 2026 دورانًا مأهولًا حول القمر، بينما ستشهد أرتميس 3، في عام 2027، هبوط رواد فضاء على سطحه للمرة الأولى منذ عام 1972. وليس هذا فحسب، بل يهدف البرنامج إلى بناء محطة “Gateway” القمرية، لتكون بمثابة نقطة انطلاق للبعثات المستقبلية.

دور أوروبا المتنامي في استكشاف الفضاء

لا يقتصر دور أوروبا في برنامج أرتميس على الدعم السياسي فحسب، بل يمتد ليشمل مساهمات تكنولوجية حيوية. تعد وحدة الخدمة الأوروبية (ESM) للمركبة الفضائية أوريون، والتي يتم تطويرها وبناؤها بشكل كبير في ألمانيا، من المكونات الرئيسية لهذه المهمات. هذه الوحدة مسؤولة عن توفير الطاقة والدفع والتحكم البيئي ودعم الحياة لمركبة أوريون.

وفي هذا السياق، يبرز الاتحاد الأوروبي كشريك أساسي، بل وكلاعب مستقل يطمح إلى تحقيق مكانة رائدة في مجال استكشاف الفضاء. وقد صرح رئيس وكالة الفضاء الأوروبية، جوزيف أشباخر، بأن أول أوروبيين سيشاركون في مهمة مستقبلية إلى القمر سيكونون من جنسيات ألمانية وفرنسية وإيطالية، مع إعطاء الأولوية للمرشحين من ألمانيا.

هل نشهد هبوطًا ألمانيًا على القمر؟

يتنافس حاليًا أربعة رواد فضاء ألمان على فرصة تاريخية للمشاركة في مهمة إلى القمر. يُعتبر كل من ألكسندر غيرست وماتياس ماورر الأكثر واعدة، حيث يتمتعان بخبرة سابقة في العمل على متن محطة الفضاء الدولية (ISS) وهما عضوان في فريق رواد الفضاء النشطين التابع لوكالة الفضاء الأوروبية.

الخبرة شرط أساسي

تعتبر الخبرة في الفضاء شرطًا أساسيًا للاختيار، حيث أن وكالة الفضاء الأوروبية حاليًا تقتصر المشاركة في مهمات القمر على رواد الفضاء الذين سبق لهم التواجد في الفضاء. ومع ذلك، لا يزال هناك أمل لرواد الفضاء الاحتياطيين، أميلي شونينفالد ونيكولا وينتر، في اكتساب الخبرة اللازمة قبل الموعد النهائي للمهمة.

ألكسندر غيرست أعرب عن حماسه للمشاركة في مهمة إلى القمر، مؤكدًا على الفوائد المتعددة التي ستعود على البرنامج الفضائي الأوروبي، بما في ذلك التقدم التكنولوجي في مجالات مثل مراقبة الأرض وأبحاث المناخ، وتعزيز الاستقلالية التكنولوجية لأوروبا.

سعي أوروبا نحو الاستقلالية التكنولوجية

لا يقتصر الطموح الأوروبي على مجرد الوصول إلى القمر، بل يمتد ليشمل تحقيق استقلالية أكبر في مجال السفر إلى الفضاء. فالاعتماد على الولايات المتحدة في العديد من الجوانب الحيوية يمثل تحديًا أمام أوروبا، التي تسعى إلى أن تصبح قوة فضاء مستقلة بذاتها.

هذا السعي يتلقى دعمًا كبيرًا من خلال ميزانية قياسية لوكالة الفضاء الأوروبية، حيث تقدم الدول الأعضاء ما يقرب من 22.1 مليار يورو للسنوات من 2026 إلى 2028. وتركز هذه الميزانية بشكل خاص على تطوير قدرات أوروبا في الوصول إلى الفضاء بشكل مستقل.

تطمح ألمانيا، باعتبارها أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، إلى لعب دور ريادي في هذا المجال، وتسعى إلى تحقيق ما تسميه “السفر إلى الفضاء صنع في ألمانيا”. وقد تجسد هذا الطموح في إدراج مصطلح “الفضاء” رسميًا في اسم وزارة الأبحاث الألمانية. وتعتبر ألمانيا أكبر مساهم في وكالة الفضاء الأوروبية، حيث تقدم مبلغ 5.1 مليار يورو.

المنافسة العالمية في سباق الفضاء

لا تقتصر المنافسة على الوصول إلى القمر على الولايات المتحدة وأوروبا، بل تشمل أيضًا قوى كبرى أخرى مثل روسيا والصين.

تخطط روسيا لإنفاق مليارات الدولارات على برنامجها الفضائي، وتسعى إلى جذب المزيد من الاستثمارات من القطاع الخاص. وتشمل خططها إطلاق خدمة إنترنت عبر الأقمار الصناعية تنافس ستارلينك في عام 2027. ومع ذلك، يواجه البرنامج الروسي تحديات لوجستية ومالية قد تؤدي إلى تأخير بعض المهام.

أما الصين، فهي تتقدم بخطى سريعة في برنامجها الفضائي، وتضع نفسها كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة. تهدف الصين إلى إطلاق مهمة مأهولة إلى القمر بحلول عام 2030، على الرغم من أنها لم تكشف بعد عن جداول زمنية محددة.

خطوة رمزية نحو القمر

فيما يتعلق بألمانيا، يمكن أن تبدأ الرحلة نحو القمر بخطوة رمزية في عام 2026. قامت المصممة الإيطالية جوليا بونا، المقيمة في برلين، بتصميم تميمة سترافق رواد الفضاء في مهمة أرتميس 2.

تصميم بونا يمثل رائد فضاء صغير يقف على كتف عملاق يرمز إلى كبسولة أوريون، وهو إشارة إلى الأساطير اليونانية التي تربط أوريون بالإلهة أرتميس. هذه التمائم تحمل تقليدًا قديمًا، حيث أخذ يوري جاجارين تميمة حظ صغيرة معه إلى الفضاء في عام 1961.

وتأمل بونا أن ترى تميمتها تطفو بين رواد الفضاء في البث المباشر لمهمة أرتميس 2، لتكون بذلك خطوة أولى رمزية لألمانيا نحو تحقيق حلم الوصول إلى القمر. إن هذا الحدث يمثل بداية فصل جديد في استكشاف الفضاء، وفصلًا قد يشهد فيه رواد فضاء ألمان يخطون خطواتهم الأولى على سطح القمر.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version