إعادة تشكيل الشرق الأوسط: زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن وتداعياتها الأمنية

شهدت واشنطن مؤخرًا زيارة تاريخية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لم تكن مجرد جولة تقليدية في صفقات السلاح، بل خطوة حاسمة نحو إعادة صياغة ميزان القوى في المنطقة. فالمظاهر الاحتفالية، من الفرق العسكرية وصفوف الأعلام، أخفت وراءها محادثات عميقة تتجاوز الأطر السياسية الأميركية التقليدية، وتضع السعودية في قلب تحول أمني إقليمي كبير. هذه الزيارة، وما نتج عنها من اتفاقيات محتملة، تثير تساؤلات حول مستقبل النظام الأمني الإقليمي، ودور القوى الرئيسية فيه، وتأثير ذلك على الاستقرار والازدهار في المنطقة.

السعودية في مركز الثقل: رؤية جديدة للشرق الأوسط

وفقًا لتحليل نشره موقع “The Media Line”، لم تقتصر المحادثات بين الجانبين السعودي والأمريكي على التعاون العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل اتفاقات دفاعية واسعة النطاق، وإمكانية حصول السعودية على مقاتلات الجيل الخامس F-35، وتجهيزات متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي، والتعاون النووي المدني، بالإضافة إلى بحث شروط التطبيع المحتمل مع إسرائيل.

الدكتور هشام الغانم، الباحث في مؤسسة “كارنيغي”، يرى أن المشهد في واشنطن يعكس “محاولة جادة لإعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط”، مؤكدًا أن “السعودية تقف في مركز هذا التحوّل وتسعى إلى سلام حقيقي واستقرار وتنمية شاملة”. هذا التحول يرتكز على رؤية سعودية جديدة للمنطقة، تسعى إلى إغلاق دوائر عدم الاستقرار، على عكس النماذج الأخرى السائدة.

نماذج القوة المتقابلة: السعودية وإسرائيل وإيران

يشير الغانم إلى أن السعودية وإسرائيل وإيران تمثل ثلاثة نماذج مختلفة للقوة الإقليمية. فالسعودية، كما ذكرنا، تركز على الاستقرار والتنمية، بينما يعتمد النموذج الإسرائيلي على التفوق العسكري الدائم والحفاظ على بيئة إقليمية هشة. أما النموذج الإيراني، فيقوم على دعم الميليشيات التي تعمل على إضعاف الدول من الداخل.

مستقبل الأمن الإقليمي، بحسب الغانم، سيتحدد بناءً على الدعم المقدم للنموذج السعودي، أو استمرار المنطقة في دوائر الأزمات التي تستفيد منها إيران. هذا يعني أن واشنطن تواجه خيارًا استراتيجيًا حاسمًا: هل تدعم رؤية سعودية للاستقرار، أم تستمر في اتباع سياسات تقليدية قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات؟

صفقة F-35: تحول في الهندسة الدفاعية وتحدي التفوق الإسرائيلي

يعتبر إعلان الرئيس الأميركي المضي قدمًا في بيع مقاتلات F-35 للسعودية خطوة غير مسبوقة. الإدارات الأمريكية السابقة تجنبت هذا المسار حرصًا على الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل. لكن الغانم يوضح أن هذه المقاتلات ليست مجرد إضافة للأسطول السعودي، بل هي عنصر أساسي في إعادة صياغة طبقات الردع.

الحرب الإسرائيلية–الإيرانية في يونيو 2025 أظهرت أن امتلاك مقاتلات الجيل الخامس يمنح القدرة على اختراق الدفاعات وضرب البنى الاستراتيجية بدقة. في ظل توسع شبكات إيران من الصواريخ والمسيّرات والوكلاء، يرى الغانم أن عدم امتلاك السعودية لقدرات مماثلة يمثل ثغرة استراتيجية خطيرة. دخول السعودية “نادي F-35” سيجعل أي استهداف لبنيتها التحتية مكلفًا للغاية، وبالتالي يعزز الردع الإقليمي.

هذه الصفقة تمثل أيضًا اختبارًا لمفهوم التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، الذي تضمنته واشنطن منذ التسعينيات. ويرى المحللون أن تجاوز هذا الخط مشروط بضمانات سعودية قوية لحماية التكنولوجيا من الوصول إلى الصين، وقبول مستوى عالٍ من الاندماج العملياتي مع الولايات المتحدة، وإطار إقليمي يضمن أن صعود القوة السعودية يهدف إلى تقييد إيران وليس إلى تهديد إسرائيل.

الصين في قلب الحسابات: دوافع أمريكية أبعد من التوازن الإقليمي

لا يقتصر الدافع الأمريكي وراء صفقة F-35 على تحقيق التوازن الإقليمي، بل يمتد ليشمل المنافسة مع الصين. الخبير سيريل ويدرسهوفن يرى أن واشنطن تسعى من خلال هذه الصفقة إلى ربط الرياض بشكل أعمق بالولايات المتحدة، ومنعها من توسيع تعاونها الدفاعي مع بكين أو موسكو، سواء في مجال التكنولوجيا العسكرية أو الذكاء الاصطناعي.

الولايات المتحدة تستخدم الملف النووي أيضًا للحد من الحضور الصيني في المشاريع الحيوية داخل المملكة. هذا يعكس قلقًا أمريكيًا متزايدًا بشأن النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، ورغبتها في الحفاظ على تحالفاتها التقليدية. التعاون الدفاعي مع السعودية يمثل جزءًا من استراتيجية أوسع لاحتواء الصين وتعزيز المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

الملف النووي: طموح سعودي تحت الرقابة الدولية

التعاون النووي المدني يمثل ركيزة ثانية في المحادثات بين السعودية والولايات المتحدة. السعودية بحاجة إلى مزيج طاقة متنوع يتوافق مع طموحاتها الصناعية، والطاقة النووية، ضمن رقابة صارمة، تشكل خيارًا منطقيًا.

الرياض تتجه نحو نموذج شفاف يعتمد على التعاون مع واشنطن والوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مسار مغاير للتجربة الإيرانية السرية أو النموذج الإسرائيلي غير المعلن. المخاطر، بحسب ويدرسهوفن، تظل محدودة طالما بقيت واشنطن منخرطة بشكل مباشر في هذا التعاون.

بين سردية سباق التسلح والواقع: هل نشهد تصعيدًا عسكريًا؟

يشكك جاستن ألكسندر في وجود سباق تسلح فعلي في المنطقة، معتبرًا أن الكثير من المشتريات الخليجية تحمل بعدًا رمزيًا أكثر من ارتباطها بصراع وشيك. يشير إلى تراجع الإنفاق العسكري السعودي في 2024 و2025. لكن الغانم يرى أن الزيادات الأخيرة تهدف إلى سد فجوات تراكمت لسنوات، وأن السعودية تبني منظومة ردع شاملة تشمل القوة الجوية الحديثة، والدفاعات الصاروخية، والبنية السيبرانية، وربط هذه القدرات بالشبكات الخليجية والإقليمية.

التطبيع: بند ملازم لجميع المحادثات

التطبيع مع إسرائيل يظل بندًا ملازمًا لجميع المحادثات، لكنه مسار مشروط بثلاث ركائز أساسية: طريق واضح نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة، وترتيبات أمنية تحافظ على البيئة الإقليمية، واستراتيجية لإعادة إعمار غزة والضفة الغربية تعتمد على مؤسسات دولة فاعلة. السعودية، وفقًا لألكسندر، ثابتة في موقفها، وأن التطبيع غير ممكن في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية.

أي نموذج للشرق الأوسط؟

في الختام، يخلص تحليل “The Media Line” إلى أن الولايات المتحدة تقف أمام خيار استراتيجي حاسم: هل تتبنى نموذجًا يقوم على الهيمنة الدائمة ومنطق الأزمات، أم تدعم نموذجًا بديلًا يعتمد على الاستقرار المشترك، وتكون السعودية فيه دولة مركزية؟ نجاح أي اتفاق يعتمد على ترسيخه داخل المؤسسات الأميركية، ووجود آليات تنفيذ واضحة.

الشرق الأوسط يدخل فصلًا جديدًا تضع السعودية في مركزه، والملفات المرتبطة بـ F-35 والتعاون النووي والتطبيع ستحدد شكل النظام الإقليمي لسنوات طويلة. هذه التطورات تتطلب متابعة دقيقة وتحليلًا معمقًا لفهم التداعيات المحتملة على المنطقة والعالم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version