عندما تنزل الفواجع بالبشر ويختار القدر بعضهم للنجاة دون الأحبة، دائماً ما يتساءل، ربما بالكثير من السخط والاستياء، لمَِ أنا مَن اُخترتُ للخروج مِن هذا حياً؟ لتأتيه الإجابة بالأفعال التي يُسيّر إليها، لكي تنقذ غيرك! كان ذاك حال من صادف وأبعدتهم أقدارهم عن المنازل التي انهارت فوق رؤوس عامريها. عادوا لينقذوا مَن لا يزال حياً.

رغم الخصوصية التي تتمتع بها المناطق التي ضربها الزلزال، والتي يعود بعضها لقرون مضت، لكن تضاريسها الوعرة وانشقاق الجبال وضع أهالي المنطقة أمام اختبار غير مسبوق، إذ كان عليهم القيام بعمليات الإنقاذ في الساعات الأولى من وقوع الزلزال الذي قطع الطرق وحال دون وصول فرق الإنقاذ سريعاً.

نعيمة.. 14 ساعة تحفر بيديها

من أولئك المُنقذِين السيدة «نعيمة آيت»، التي استمرت أكثر من 14 ساعة متواصلة، وبيديها المجردتين اللتين حلتا محل آليات الإنقاذ، تنبش الأرض، وترفع حجارة المنازل التي أطبقت على أجساد أصحابها، غير عابئة بظلمة الليل، أو انهيارات مفاجئة قد تلحقها بموتاها، ملبية نداءات واستغاثات تأتيها من تحت الركام. ربما هو موروث في دماء شعوب المناطق ذات الطبيعة القاسية في تقفي الأثر، أثر المياه أو الدواب أو حتى أثر مَن غاب تحت الأرض. وهي التقنية التي اتبعتها نعيمة وبقية المنقذين، الإصغاء لأنفاس وأصوات خافتة تأتي من أسفل أقدامهم، تمدد جسدها على الركام، تلصق أذنها به لتحدد من أين تبدأ الحفر، أو النبش.

سردت لنا السيدة التي تقطن منطقة «إيغل» مركز الزلزال، كيف كانت خارج المنزل، أثناء وقوع الزلزال، فهرعت مسرعة نحو منزلها، وتمكنت من إنقاذ أهلها دون إصابتهم بأذى.

تقول نعيمة: مع اللحظات الأولى لوقوع الزلزال بدأنا مباشرة في عمليات الإنقاذ، وبما أننا نعرف أن بُعد المسافة عن المدينة ووعورة الطريق قد يبطئ وصول قوات الإنقاذ، تكاتفنا جميعاً نساءً ورجالاً، لم يخشَ أحد الموت جراء انهيار منزل فوقه أثناء محاولة إنقاذ من تحته.

تصمت نعيمة لحظةً بعدما غلب عينيها الدمع بمثول لحظات وجع حتى الزمن لن يقدر على محوها من الذاكرة، وتكمل: لا يزال صوت صراخ ذعر الأطفال يصم أذني عند مداهمة الزلزال في لحظاته الأولى، ومنهم مَن كان يقف ماداً يديه وكأنه يطلب الغوث، الذي عجزنا عن تقديمه. لكن السيدة تعود وتبتسم مجددا قائلة: لكن لا شيء يساوي لحظة إنقاذ بقية أطفال القرية ونسائها، منهم من كانت إصابته بالغة، كنا نشق ثيابنا للربط على الجرح، ونحملهم على أكتافنا لنقلهم لمكان آمن، حقيقة لا أعرف من أين امتلكنا كل هذه القوة. تؤكد أن مساهمة النساء في عملية إنقاذ المئات لم تقل عن عمل أشد الرجال وقت الحاجة.

نجاة.. انتشلت ذوي الاحتياجات من تحت الركام

تجلس وسط خيمة بدائية، يحيط بها العشرات من الأطفال والفتيات، تدقق في أوراق تحصي فيها الأسماء وأعداد الضحايا، وتعود مرة أخرى لتدقق النظر في الأطفال اليتامى متسائلة عن الغد الذي ينتظرهم.

لم تمنع البساتين الخضراء هنا سواد الحزن، ولا وجع الفراق، حتى الثمار على أشجارها شابت حزناً فسقطت دون أن تجد من يمد يده إليها.

في منزل يعود تاريخه لأكثر من 400 عام، اعتاد استقبال الزوار والأطفال من المدرسة القرآنية، تستعيد نجاة حساني (51 عاماً) من قبيلة «أولاد مطاع» ما حدث، وتصف المشهد وكأنه يوم القيامة، في منطقة «أولاد مطاع» ذات الأصول المصرية والبالغ سكانها نحو 8 آلاف نسمة، مقسمة إلى 15 دواراً.

تقول نجاة، إنها اعتادت قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة قبل نومها، ومع الانتهاء من ختام الآية، اهتز كل شيء حولها، وانغلقت أبواب منزلها، إثر بعض الانهيارات لكنها تمكنت من الخروج هي وأسرتها بسلام.

بعد خروجها بلحظات هرعت لمنزل جيرانها الذي يضم عدداً من المعاقين، وطلبت العون من أبنائها وشباب المنطقة الذين تمكنوا من إخراج أسرة مكونة من 4 أفراد في دقائق معدودة.

توجهت نجاة مباشرة لإخلاء المدرسة القرآنية، التي كادت أن تتحول لكارثة كبرى، إذ يقيم بها نحو 320 طالباً، تمكنت من إخراجهم في دقائق وتوجيههم إلى ساحة بعيدة عن المنازل.

كانت نجاة من المتطوعات في الهلال الأحمر في فترة سابقة، إذ تتمتع بخبرة للتعامل مع مثل هذه الحالات، الأمر الذي جعلها في مركز قيادة توجيه الأهالي الناجين لساحات فارغة، والاستمرار في عمليات الإنقاذ.

من منطقة أمزميز هي الأخرى، كان لفطومة ورفيقاتها، دور مماثل، إذ شاركت السيدة الأربعينية مع كل فتيات ونساء المنطقة في عمليات الإنقاذ.

تقول فطومة: طبيعة المنازل هنا من الطين والحجارة، الأمر الذي سهّل علينا عمليات الإنقاذ، كنا نلقي بالحجارة بعيداً، وننبش الطين بأيدينا أو بالفأس، دون الحاجة لآليات حفر. وتضيف: أنقذنا العديد من أهالي المنطقة، منهم أطفال في عمر عام أو أقل، ونساء ورجال في السبعينات، كنا نبتهج كلما أخرجنا أحد الأهالي من تحت الركام، ونبكي مرة أخرى، إذا ما خرج متوفى، لكن مع كل هذا لم نتوقف، واصلنا جميعا العمل دون توقف حتى وصول قوات الإنقاذ، وشاركنا معهم حتى انتشال آخر جثة من تحت الأنقاض.

ماما فدوى.. صاحبة السعادة

بين عشرات الخيام، تجلس النسوة على حجارة من منازلهن المنهارة، وضعنها بين الخيام للجلوس عليها خلال ساعات الانتظار الطويلة لغدٍ تشابه مع اليوم والأمس، لم يرين فيها سوى النحيب والبكاء وإحصاء أعداد الوفيات والمصابين.

في مشهد مغاير، بين استخراج الجثث من تحت الأنقاض وناجيين إلى اليمين، وعمليات إنزال المساعدات المختلفة إلى اليسار، تجتمع عشرات الفتيات حول سيدة أربعينية، تمشط لهن شعورهن، وتضع على رؤوسهن الفراشات، في محاولة لمقاومة غزو الحزن المطبوع في الملامح.

فدوى الملياني، سيدة مغربية في العقد الرابع، جاء تفاعلها بشكل مغاير مع أحداث الزلزال، فقررت أن تخفف وطأة الحزن وألم الفقد ومرارة الواقع وتدخل البهجة على قلوب الفتيات بطريقتها. فقد أبت إلا مد يد العون بقدر ما استطاعت.

تقول فدوى، إنها وجدت الجميع يهم بحمل المساعدات الغذائية والعينية إلى المناطق المنكوبة، لكنها شاهدت الأطفال والفتيات عبر العديد من التقارير على شاشات التلفزيون، لم يهتم بهم أحد، وأولئك هم الأكثر حاجةً للمساعدة النفسية.

حملت الملياني في سيارتها كل ما يمكن أن تقدمه للأطفال والفتيات من ألعاب، وأدوات تجميل، وتجولت بين القرى والدواوير، بقيت لأيام بين الأطفال تنام في خيامهم، وتشاركهم طعامهم، من منطقة لأخرى.. حتى أصبحت شهرتها في المنطقة «ماما فدوى»، هكذا يناديها الأطفال.

تقول سكينة 9 سنوات، التي فقدت والدتها وشقيقتها، إنها سعيدة بتواجد «ماما فدوى» إلى جوارهم، إذ جلبت لها من الألعاب ومستحضرات التجميل ما لم تعرفه من قبل.

وتضيف، مشت أمي والأخت ديالي، نتمنى أن تبقى معنا ماما فدوى.

تعود الملياني للحديث موضحة، أنها وجدت ألفة كبيرة بين الفتيات في مناطق الزلزال، وأنها لا تكاد تغادر قرية إلا وتترك قطعة من قلبها مع أطفال فقدوا أمهاتهم وأشقاءهم وأهلهم ويباتون في خيام حتى إعادة إعمار منازلهم.

أمزميز..لم يبق إلا بساتينها

في الطريق إلى أمزميز كان أخف وطأة من الطريق إلى مناطق أخرى، لكن العديد من القرى هنا أيضاً طالها الدمار.

من بين هذه القرى التي وجدنا أهلها في الخيام «دوار تفكاغت»، بعد أن باتت المدينة كما حقل حرث للتو، وقلب أعلاه أسفله، واختلطت كل تفاصيل المنازل حتى تلاشت معالمها وأثرها.

أكثر من 100 من أهالي القرية قضوا نحبهم تحت أنقاض منازلهم من بينهم عشرات النساء، وفق ما أكد الأهالي حينها، أن القرية وحدها سجلت 105 حالات وفاة، من النساء والأطفال والرجال.

حال القرية كما حال معظم القرى هنا، تبعد المراكز الصحية عنها عشرات الكيلومترات، إذ تتواجد في المدن الرئيسية، كما يخشى من نجا من أهلها صعوبة فصل الشتاء.

جمال أحدوش، مغربي خمسيني من قرية «تفكاغت» فقد ابنتيه، الكبيرة 13 عاماً، والصغيرة 9 أعوام، ووالدته السبعينية، لكنه يأمل في تأمين العيش لمن تبقى من أسرته بعد أن فقد منزله بالكامل، ويجلس في خيمة، قد لا تقيه قسوة برودة الشتاء في جبال الأطلس.

يؤكد أحدوش أن نساء القرية ساهمن بقدر كبير في تضميد جراح المصابين، ونبش تراب المنازل ورفع الحجارة حتى الصباح ليخرجن الأحياء من تحتها، وينتشلن جثث الضحايا.

مونيه: النساء اصطففن قبل الرجال

في جانب آخر، كان للعديد من النساء دور في تقديم المساعدات العينية والخيام والمستلزمات الطبية إلى المناطق النائية. تقول مونية رمسيس، التي تقيم بالرباط، إن قوافل المساعدات خرجت من طنجة وحتى الكويرة باتجاه المناطق المتضررة، كما أن مدن الداخلة والعيون وطنجة والدار البيضاء والرباط، وجل مدن المغرب خرجت منها القوافل، ومنها من كانت على رأسها سيدات لنقلها إلى إقليم الحوز وشيشاوة وتارودانت ومناطق عدة.

وتضيف، أن الكارثة وضعت الجميع أمام مسؤولية تقديم الدعم والمساندة، وأن الشعب المغربي قدم صورة جلية للثوابت التي عززتها المؤسسة الملكية في الشعب منذ تاريخ طويل. وأكدت رمسيس أن النساء تواجدن في كل مكان للمساعدة وتقديم الدعم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.