غزة– نفض أبو جهاد السلطان الغبار عن مذياع قديم يمتلكه منذ 30 عاما، وأصلح خللا أصابه من سنوات الهجر والإهمال دون استخدام، ولاحق الإذاعات من أجل تقصي خبر هنا أو هناك، بعدما أغرقت إسرائيل القطاع في عزلة تامة منذ مساء الجمعة الماضي.

عند حوالي الساعة السابعة من ذلك المساء كان القطاع على موعد مع حالة غير مسبوقة، وجد فيها أكثر من مليوني فلسطيني أنفسهم معزولين عن العالم الخارجي، إثر قطع إسرائيل خدمات الاتصالات الخلوية والأرضية، وخدمات الإنترنت.

يقول أبو جهاد للجزيرة نت، “شعرنا وكأننا دخلنا فجأة في آلة زمن أعادتنا عشرات السنين إلى الوراء، الأجواء خلال ساعات العزلة كانت أكثر رعبا، خاصة مع التحليق المكثف للطيران الحربي الإسرائيلي، والغارات وأصوات الانفجارات تدوي في كل مكان”.

عودة للمذياع

وجد أبو جهاد (55 عاما) نفسه مضطرا للبحث عن جهاز مذياع بين كومة من الأدوات والأجهزة القديمة في مخزن منزله، ويقول، “لم أتوقع يوما أن هذا الراديو (المذياع) سيكون الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يدور، ليس في العالم البعيد فقط، وإنما حتى الأحداث الجارية من حولي”.

ولم يعُد لأجهزة المذياع مكان في منازل غالبية الفلسطينيين في قطاع غزة، سوى لدى فئة محدودة من كبار السن، حيث تربطهم بها العادة، ولا تستهويهم تقنية التطبيقات على الهواتف النقالة.

واحتمل أبو جهاد مشاق الوقوف طويلا واضعا المذياع على نافذة تحطم زجاجها نتيجة غارة جوية إسرائيلية، في إحدى ليال الحرب المتصاعدة على غزة، للأسبوع الرابع على التوالي.

وأخذ يحرك مؤشرا بواسطة قرص معدني باحثا عن إذاعة يصله صوتها صافيا، وهي مهمة ليست سهلة في ظل التشويش الشديد الناجم عن التحليق المكثف للطيران الحربي والطائرات المسيّرة من غير طيار، التي تسمى شعبيا في غزة “الزّنّانة”؛ لِما تصدره من أصوات مزعجة على مدار الساعة.

ويصف أبو جهاد حوالي 33 ساعة من العزلة بأنها “الأشد خوفا ورعبا” منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من الشهر الجاري، ويقول، “أحكم انقطاع الاتصالات والإنترنت الخناق حول رقابنا، وكانت ساعات الليل مرعبة ومخيفة، وفارقنا النوم وحلّ محله القلق الشديد”.

شرائح مصرية وإسرائيلية

لكن الشاب العشريني فراس عدوان، لم يحتمل انقطاع الاتصالات والإنترنت، فلجأ إلى شريحة اتصالات لشركة مصرية، خدماتها متاحة فقط، وبجودة ضعيفة في بعض مناطق مدينة رفح، المتاخمة للحدود بين القطاع ومصر.

يقول فراس للجزيرة نت، إنه وآخرون لجؤوا إلى شراء شرائح اتصالات مصرية، نفدت سريعا من الأسواق، من أجل البقاء على تواصل مع العالم، ومعرفة تطورات العدوان الإسرائيلي.

وبينما لجأ فراس إلى شريحة اتصالات مصرية، بعد تعطل خدمات شركتي الاتصالات “جوال” و”أوريدو” العاملتين في الأراضي الفلسطينية، وجد قلة من الغزيين ضالتهم في شرائح اتصالات لشركات إسرائيلية، يحتاج تفعيلها إلى الوجود في مناطق قريبة من السياج الأمني شرق القطاع، ولتعذر الوصول إلى هذه المناطق المحفوفة بكثير من المخاطر، كان خيارهم بالصعود فوق أسطح منازل مرتفعة.

وقال عصام، وهو صحفي يعمل لصالح وكالة أنباء أجنبية، وفضّل عدم ذكر اسمه كاملا، إنه أجرى اتصالا واحدا من شريحة اتصالات إسرائيلية مسجّلة باسم الوكالة، وفوجئ بتعطيلها فورا وخروجها من الخدمة.

وخلال ساعات العزلة، كان للمذياع قيمته -أيضا- لدى فراس وعصام، وهما من الجيل الشاب، حيث كان مصدرا رئيسا للحصول على معلومة. ويقول عصام، إن “إذاعة محلية تبث نشرات أخبار قناة الجزيرة الفضائية كانت تربطه طوال ساعات العزلة، بما يدور في القطاع من أحداث وتطورات الحرب”.

إسعاف نحو الصوت والدخان

زاد قطع الاتصالات والإنترنت من التعقيدات والعراقيل في طريق عمل الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف، التي لم تعُد قادرة على تحديد أماكن الغارات الجوية الإسرائيلية والمناطق المستهدفة.

وخلال ساعات العزلة اعتمدت سيارات الإسعاف على التحرك حسب مصدر الصوت، أو نحو أعمدة الدخان المنبعثة من الغارات الجوية، وفي ساعات الليل لم تكن قادرة على التحرك إلا بعد وصول ضحايا الغارات بطرق بدائية على عربات تجرها الدواب (الكارو)، أو سيارات صغيرة تسير على 3 عجلات تسمى شعبيا “التكتوك”.

وقال مراسل شبكة الأقصى المحلية في مدينة رفح جمال عدوان، للجزيرة نت، إن سيارات الإسعاف توزعت خلال ساعات انقطاع الاتصالات والإنترنت في محاور رئيسة عدة بالمدينة، من أجل سرعة التجاوب والانطلاق نحو المنازل والأماكن المستهدفة.

ووجد الصحفيون المقيمون منذ اندلاع الحرب في مستشفى “أبو يوسف النجار” الوحيدة في مدينة رفح، ومنهم جمال عدوان، أنفسهم عاجزين عن متابعة التطورات، والتواصل مع جهات عملهم، وهو حال غالبية الصحفيين في القطاع، وبينهم أعداد كبيرة لجأت إلى المستشفيات.

مواطن في مدينة رفح جنوب قطاع غزة يشحن أجهزته في الشارع في ظل انقطاع تام للكهرباء منذ اندلاع الحرب-رائد موسى-الجزيرة نت

على قارعة الطرق

وتطوع أصحاب منازل ومؤسسات محلية تعمل على كهرباء تولدها خلايا شمسية، بتمديد وصلات كهرباء في الشوارع، وأتاحوها بالمجان لمن يحتاج شحن أجهزة المذياع والهواتف النقالة، وبطاريات صغيرة تستخدم للإنارة المنزلية اليسيرة يتغلبون بها على الظلام الحالك.

ومع اندلاع الحرب على غزة، فرضت إسرائيل حصارا مطبقا، ومنعت إدخال مواد كثيرة، وحظرت توريد الوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، فضلا عن قطع الخط الناقل للكهرباء الواردة من إسرائيل.

ورغم مخاطر التجمعات في الشوارع وعلى مفترقات الطرق، ولا سيما مع استهدافات سابقة أسفرت عن ارتقاء شهداء وجرحى، فإن حالة العزلة اضطرت العديد من الشبان في مخيمات اللاجئين إلى التجمع أمام أبواب منازلهم، وبين أزقة المخيمات، وتبادل الأخبار عن تطورات الميدان في ظل انقطاع الاتصالات والإنترنت.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.