“إن شخصية كليوباترا ليست بسيطة على الإطلاق، ولا يسهل وصفها، لكنها تظل امرأة ذات شخصية ملهمة.. لا تعرف إذا كانت سمراء وجميلة، أم بيضاء وغير جذابة، لا نملك جثمانها حتى نعرف على وجه الدقة، والأدلة الأثرية تؤكد أن كليوباترا تعتبر نفسها مصرية، صحيح أنها من أصل يوناني مقدوني، لكنها عندما اعتلت العرش في مصر عام 51 قبل الميلاد، كانت أسرتها تعيش في مصر لمدة 272 عاما”.

هكذا تستعرض الكاتبة والمؤرخة سالي-آن أشتون في كتابها “كليوباترا ملكة مصر”؛ الجدلَ التاريخي حول لون بشرة الملكة كليوباترا الذي لا يمكن حسمه، وتعرض خلال كتابها النظريات المختلفة حول لون بشرتها، وحياتها المثيرة للجدل كآخر ملكات البطالمة في مصر، وقصص حبها الخالدة، وكيف أنهت حياتها بنفسها لتلهم أعظم الأدباء ليكتبوا مشهد نهايتها المأساوي.

وتهتم الكاتبة بتاريخ مصر وثقافتها، فقد نشرت كتبا عن تاريخ مصر منها “آخر ملكات مصر”، وتعمل حاليا بمتحف فيتزويليام بجامعة كامبردج، كما شاركت في أعمال تنقيب في اليونان وليبيا ومصر.

ملكة مصر

يجادل الباحثون المؤيدون لنظرية كليوباترا السمراء بحجج مختلفة، منها وصف المسرحي الإنجليزي الكبير شكسبير للملكة المصرية بأن بشرتها “سمراء مائلة إلى الصفار”، ولا يُعد ذلك دليلا لأن شكسبير لم يكن معاصرا للملكة، كذلك يمكن بإلقاء نظرة واحدة على تماثيل كليوباترا وصورها التأكد من أن اليونان لم يكن لها دور فعلي في أسلوب تصوير الملكة في مصر.

ويشير كتاب آن أشتون إلى تعاطف المؤرخين دارسي التاريخ الأفريقي أو ذوي الأصول الإغريقية مع نظرية كليوباترا السمراء، كما تتعامل المؤرخات السيدات بتعاطف أكثر مع شخصية الملكة، لإدراكهن ما حدث لشخصيتها من تشوه بمرور الزمن.

ويشكك الكتاب في مكانة الملكة كقدوة للنساء، فلا يجب التعامل مع الملكة كشخصية تاريخية معصومة من الخطأ، كما لا يجب أيضا النظر إلى كليوباترا كقدوة يحتذى بها، وفق الكاتبة.

ومن الخطأ أيضا اعتبار الانبهار بأسطورة الملكة أمرا حديثا، فقد كانت كليوباترا آخر ملكة لمصر جذبت الكثير من الاهتمام وأثارت الكثير من الجدل، سواء خلال حياتها أو مصرعها، لذلك صنع لها المصريون الكثير من التماثيل عقب وفاتها، كما تقول المؤلفة.

شجاعة نادرة

ويؤكد الكتاب وصف المصادر الرومانية الملكة بشجاعة الرجال، “هي لم ترتعد من الخوف مثل النساء عند التفكير فيما قد يفعله الخنجر”، ويعجب الرومان باختيارها الانتحار كقرار شجاع.

هذه الساعات الأخيرة في حياة الملكة، وقرارها بالانتحار ألهب خيال الأدباء، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932).

وبعد تتويجه أميرا للشعراء، أراد شوقي بنشر مسرحيته “مصرع كليوباترا” عام 1927 التأكيد على ريادته للشعر واستحقاقه لإمارة الشعر العربي، كما يرى الناقد والأكاديمي الراحل جابر عصفور.

وتركز مسرحية شوقي على الأيام الأخيرة في حياة الملكة بين موقعة أكتيوم البحرية ومصرعها، حيث نرى خلال مسرحيته الملكة شديدة الإخلاص لزوجها، تصفه بـ” سيدي وملكي وقيصري”، وتشجعه للمضي لقتال أعدائه بأعذب أبيات شعرية:

امض إلى الهيجاء أنـ        ـطونيو كما يَمضي الأسدْ
إن الأسود في اللبَدْ            دونك في هذا الزَّرَدْ
امض إلى المجد ولا         يُقعدْك شُغلٌ في البلد
المجد لا يَسألُ عن            صاحبة ولا ولد
أنت لروما في غد            وقيْصرونُ بعد غد
والشرق سلطاني الذي       إكليله ليَ انعقد
يا ليثُ سرْ، يا نَسْرُ طرْ     عُدْ ظافرا أو لا تعد

كما يصورها شوقي عزيزة النفس، ترفض الهزيمة، تقرر الانتحار بشجاعة لتموت كملكة على عرش مصر.

سَطتْ روما على مُلكي ولَصَّتْ           جواهرَ أسرتي وحُليَّ آلي
فرُمتُ الموتَ لم أجبُنْ ولكن               لعل جلاله يحمي جلالي
أأدخل في ثياب الذل روما                وأُعرَض كالسّبيّ على الرجال؟
سأنزل غير هائبة                         إذا ما تلمّظت المنيَّةُ للنزال
أموتُ كما حَييتُ لعرش مصر           وأبذل دونه عرش الجمال
حياة الذلّ تُدفَع بالمنايا                  تَعالي حَيَّةَ الوادي تعالي

ويصور شوقي موت الملكة، ووداع قيصر لها بقوله:
وداعا عروسَ الشرق كلُّ ولاية      وإن هَزَّت الدنيا لها الموتُ آخر

ويرى الناقد جابر عصفور أن شوقي أراد أن يظهر الملكة كامرأة مصرية تضع خدمة وطنها في المقام الأول، وحين مزجت الحب بالسياسة لم تكن تهدف لإظهار ضعفها، بل كانت تستخدم ذكاءها لتحقيق مقصدها النبيل في الحفاظ على مصلحة مصر وصيانة سيادتها، وفق تعبيره.

كما تعامل شوقي بعاطفية مع شخصيات مسرحيته، ممجدا كليوباترا وكل ما يرتبط با من المصريين، ومحقرا أنطونيوس وكل من يرتبط به من الرومانيين.

شكسبير

يعتمد الباحثون الذين كتبوا عن الملكة في مادتهم التاريخية على ما كتبه المؤرخ الروماني بلوطارخ (تقريبا 45- 125م)، الذي تُرجم كتابه إلى الفرنسية عام 1559 والإنجليزية 1579، وهو ما اعتمد عليه شكسبير في مسرحيته، ويغلب الظن أن شوقي أيضا طالع الترجمة الفرنسية خلال دراسته في باريس، كما يرجح عصفور.

ورغم أن المصدر التاريخي واحد، تختلف رؤية شكسبير للملكة لما قدمه شوقي، فقد أظهرها الأول شخصية تافهة متكلفة الأداء، تستفز الجمهور بردود أفعالها.

وفي مقاطع مختلفة من المسرحية، نرى الملكة سليطة اللسان، متكبرة، تتحدث بلغة غاضبة، على غرار: “وهل ينجو من الصاعقة جميع النبلاء؟ ألا فلتبتلع مصر أيها النيل، وليتحول أهلها الودعاء إلى أفاعٍ سامة”.

بينما تتفق رؤية شوقي وشكسبير على شجاعة الملكة، باتخاذها قرار الانتحار بدلا من الخنوع للهزيمة، إذ يقول قيصر عن موتها “لقد بلغت أقصى شجاعتها في آخر لحظة في حياتها، أنها تكهنت بما أضمرناه لها، فقضت على حياتها لأن في عروقها دم الملوك”.

وقد تكون رؤية شكسبير لكليوباترا امتدادا لوجهة النظر الأوروبية، التي تنكر أحيانا شخصية الملكة المصرية، وتتمسك بالصورة الإغريقية المرسومة لها، وقليلا ما قدم الغرب الصورة المصرية لكليوباترا، كما ترى سالي-آن أشتون.

كليوباترا ملكة مصر

هل كانت جميلة؟

لا يقتصر الجدال حول شخصية الملكة، مخلصة أم متسلطة، سوداء البشرة أم بيضاء، بل يمتد أيضا إذا كانت جميلة من الأساس.

وتشير سالي-آن أشتون إلى واقعة نشر الصحف الشعبية في بريطانيا مقالات بعنوان “كليوباترا الدميمة” في 14 فبراير/شباط 2007، بعد أن عرض متحف جامعة نيوكاسل عملة من نوع شائع تحمل صورة دميمة للملكة، وعرضها يوم عيد الحب.

وكما يربط العامة جمال الملكة بواقعة سقوطها، يشكك البعض أيضا في جمالها وبالتالي سلطتها على الرجال، بينما يؤكد المؤرخ بلوتارخ جمال الملكة الداخلي وجاذبية شخصيتها في كتابه “حياة أنطونيو”، ويشير إلى أن كليوباترا كانت تعي جمالها الشخصي وتفخر به بشدة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.