القدس المحتلة- لم تشفَ حروق الأسيرة المقدسية المحررة إسراء جعابيص، بل إن سنوات السجن الثماني عمقت من آلامها التي روت فصولها في إصدارها الأول “موجوعة” وإصدارها الثاني الذي سيرى النور قريبا “كيف أكون أنا من جديد؟”.

وإلى جانب الإصدارين فلدى هذه المحررة الجريحة ما تحكيه عن يوم 11 من أكتوبر/تشرين الأول 2015، عندما تسبب انفجار أنبوبة غاز بمركبتها بشكل عرضي إلى اعتقالها ومحاكمتها بتهمة تنفيذ عملية تفجير متعمدة على حاجز الزعيّم بين مدينتي القدس وأريحا، ثم الحكم عليها بالسجن الفعلي مدة 11 عاما.

من أمام الحاجز إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية بالقدس ثم إلى سجني الرملة والشارون وانتهاء بسجن الدامون الذي تحررت منه قبل أيام، حفرت جعابيص في ذاكرتها مراحل الألم والأمل الذي قالت في حوار خاص مع الجزيرة نت إنه ساعدها على مواصلة طريق الأسر القاسية.

  • ليس من السهل العودة إلى الوراء وبالتحديد إلى يوم الحادث، لكن حدّثينا عن اللحظات التي اشتعلت بها النيران في المركبة، وبدأت بالتهام جسدك؟

من هول المشهد دخلت في مرحلة اللاشعور وكأنني فقدت الوعي ولم أعد أشعر بشيء.

رفعت يدي إلى مستوى وجهي وتصلبت ذراعاي إلى الأعلى دون حركة حتى بعدما أنزلني الجنود من سيارتي بعد فوات الأوان، وكانت الحروق قد أتت على 65% من جسدي.

جسدي محترق من الشعر وحتى منطقة الحجاب الحاجز من الأمام وأسفل الظهر من الخلف.

  • نُقلتِ إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية في القدس، هل تذكرين كم مكثت من الوقت هناك وما العلاج الذي قُدّم لكِ؟

لا أذكر بتاتا كم من الوقت قضيت هناك، لكنها كانت من أصعب المراحل في رحلة الأسر، لم أكن أعرف الوقت ولا الأيام ولا الليل والنهار.

تعاون الطاقم الطبي مع السجّانين، وعوملت كإرهابية خلال علاجي لا كجريحة، كبّلوا يداي وقدماي بالسرير، وأُهملت طبيّا فلم يقدموا لي علاجا سوى المراهم وحبة مسكن يوميا.

ولفقرة المرهم وتقشير الحروق قصة ألم كانت تتجدد يوميا، إذ علمت من ممرضة يهودية هي الوحيدة التي تعاملت معي بإنسانية أن المرهم الذي يستخدمه بقية طاقم التمريض لا يناسب حالتي، لأن حروقي تتفاوت بين الدرجة الأولى والثانية والثالثة.

كانوا يضعون على جلدي الشاش الطبي الجاف بدلا من الرطب وعند إزالته كانوا ينتزعونه بقوة لتقشير الحروق وكنتُ أتألم كثيرا ولا أحد يلتفت لألمي.

لم يحترموا خصوصيتي كامرأة، ففي الفترة الأولى كانت الممرضات فقط من يدخلن لتقشير حروقي لكنهم تعمدوا لاحقا إدخال الممرضين من فئة الرجال فقط.

وضعوا في غرفتي مرآة لأرى شكلي الجديد المشوه، لكنني حاولت الثبات والحفاظ على توازني النفسي.

  • ماذا عن التحقيق، متى وأين حققوا معكِ؟

حققوا معي منذ اليوم الأول في المستشفى، وتناوب 4 محققين على الوُجود في غرفتي على مدار الساعة.

لم يضربوني أو يعنفوني جسديا، لكن التعذيب النفسي كان أشد قسوة لأنهم سخروا مني، ومن الحروق والندب والتشوهات.

  • من المستشفى نقلت إلى عيادة سجن الرملة، وهي مرفق صحي تابع لمصلحة السجون الإسرائيلية، حدّثينا عن هذه المحطة ذات الصيت السيئ عند الأسرى؟

عيادة سجن الرملة هي بالفعل “مقبرة الأحياء” كما يطلق عليها الأسرى، فالمبنى قديم جدا وجدرانه رطبة، وكل ما فيه يزيد من حالة الأسير المرضية.

مكثت هناك لأسبوع كامل رافقتني خلاله الأسيرة المحررة عاليا العباسي التي اعتنت بي كأمي، ولأنني خرجت من المستشفى وحروقي صعبة كان خطر انتقال فيروس أو جرثومة هو الهاجس الأكبر بالنسبة لي، بسبب انعدام النظافة في عيادة السجن.

  • سجن الشارون كان محطتك الأولى بين الأسيرات الفلسطينيات، وفيه بدأت حياة الأسر الروتينية، حدثينا عن بداية الرحلة؟

لا بدّ من القول إن الأسيرتين عاليا العباسي وعائشة الأفغاني التي تحررت معي في اليوم ذاته كان لهما الفضل الكبير عليّ، وكانتا تساعداني في كل احتياجاتي الشخصية.

بدأتُ أتكيف تدريجيا، وأحاول الاعتماد على نفسي قدر المستطاع، لكن ذلك لم يكن سهلا.

احترق شعري يوم الحادث ثم بدأ ينمو من جديد لكن ليس كالسابق، أذكر أنني عام 2017 طلبت من الأسيرات قصّه كي لا أرهقهن في تسريحه يوميا لأنني كنت أخجل من طلب ذلك.

لم تكن العضلات في جسمي تعمل بشكل طبيعي، وكانت أصابعي مائلة إلى الخلف، وهذا صعّب كثيرا من إمكانية اعتنائي باحتياجاتي الشخصية ومن بينها الأكل والشرب.

  • كيف يدعم الأسرى بعضهم بعضا داخل المعتقلات؟

التعاضد كبير بيننا فالمُعافى يساعد المريض والجريح ويكون سنده ويده اليمنى، وهذا من أنبل ما يمكن الحديث عنه في السجون.

كانت السجانات يسخرن مني ومن فقداني لأصابعي. وقالت لي إحداهن يوما إنها تتمكن من ترتيب شعرها ومظهرها ومن تناول “بِزر” (بذور) دوار الشمس على عكسي، فصبرت حتى أُزيل الشاش الطبي الملفوف على يدي واشتريت من مقصف السجن “البِزر” ذاته وحاولت مرارا حتى نجحت في تناوله أمامها، ولم أكن سأنجح بذلك دون إصراري أولا ومساندة رفيقاتي في السجن ثانيا.

  • ما أكثر ما كان يؤرقكِ في السجن؟

أن أفقد عقلي قبل الأوان، لأن تقلبات المعتقل تدفع الأسير للخوف على نفسه ومحيطه، فمثلا لم أجرؤ على الإضراب عن الطعام يوما للحصول على العلاج خوفا من قمع جماعي للأسيرات في القسم، وكنت أتحمل كل هذه الآلام في سبيل النجاة من العقاب الجماعي.

لكنني بعد السابع من أكتوبر، ندمت كثيرا لأننا عوقبنا بشكل جماعي ومستمر دون أن نقترف أي ذنب، وكذلك الحال عند هروب أسرى النفق عندما تعرضنا لسلسلة عقوبات منها إغلاق القسم علينا وإبقائنا داخل الزنازين والتفتيش الدقيق والحرمان من الزيارات وغيرها.

وهكذا توالت السنين دون أن أجرؤ على خطوة الإضراب، وكانت النتيجة الإهمال الطبي وتعرضنا للقمع دون ذنب وهو ما كنت أخشى بتسببه للأسيرات.

  • انطلقت عدة حملات إلكترونية عالمية للتضامن معكِ، هل كانت تصلك أخبارها وهل تأملتِ بأن يحرك ذلك ملفك خاصة بعد رفض المحكمة العليا الإسرائيلية الاستئناف الذي قُدم لها للإفراج عنك؟

على بريد السجن كانت تصلني رسائل من بعض المتضامنين الأجانب، كما كانت شقيقتي تخبرني خلال الزيارات عن رسائل تضامن من كافة أنحاء الوطن العربي وبالتحديد من الجزائر وتونس والأردن وسوريا.

أشكر كل من تضامن ووقف معي، ولو بكلمة طيبة من الشعوب، أما مؤسسات المجتمع المدني المطلوب منهم الفعل لا القول فيجب أن تضاعف العمل لمساعدة الحركة الأسيرة بشكل أفضل مما هو عليه الآن.

  • ماذا عن صفقات تبادل الأسرى، هل تأملتِ أن تتحرري في إحداها؟

على أجهزة التلفاز والراديو المتوفرة في الزنازين سمعنا مرارا عن أخبار صفقات تبادل التي لم تتكلل بالنجاح لاحقا، لكن لا أحد خارج أسوار السجون يعلم كم ننتعش بأخبار الصفقات وكم ننتكس بعدم إتمامها.

في بعض الأحيان كانت الأخبار تزرع فينا آمالا كبيرة لدرجة أننا نبدأ بتوضيب ملابسنا وأغراضنا من الزنزانة ونفرغها تمهيدا لمغادرتها.

في الصفقة التي تحررت بموجبها لم أتمكن من ارتداء حذائي الذي كنت قد حضرته ليوم الإفراج عني لأن السجانين صادروه منذ بداية الحرب، كما لم أتمكن من أخذ أي شيء من احتياجاتي بما في ذلك ألبوم الصور الذي جمعت فيه كل ذكريات عائلتي داخل الأسر.

لا أنكر أنني فرحت عندما نادى السجانون على اسمي لأتحرر، لكنني ظننتُ للوهلة الأولى أنها حملة تفتيش وخشيت لأنني كنت أخفي جهاز الراديو الخامس منذ بدء الحرب، وهددني السجانون أنهم إذا عثروا على جهاز آخر معي فإنني سأُغرّم وسأسحب إلى الزنزانة الانفرادية، لكنهم نادوا ليقولوا لي “ترويحة” (إفراج).

قلت يوم تحرري إنني أشعر بالخذلان، لأن هناك من هو أحق مني بالتحرر، إذ بقي من حكمي 22 شهرا، في حين بقي من حكم غيري 22 عاما وآخرون لأكثر من ذلك بكثير، وأتمنى أن تحرر الصفقات هؤلاء بالتحديد.

  • في السجون تصبح الحيوانات الأليفة مصدر سعادة للأسيرات، حدثينا عن علاقتكن بها؟

تضحك للحظات ثم تقول.. إذا رأينا صرصورا ننظم له حفلة، وفي قسمنا كتيبة من القطط إحداهن أطلقنا عليها اسم “فلفل”، وهذه القطة لونها رمادي وهي المفضلة لدى الأسيرات، لأنها تنظر إلينا بطريقة تثير الشفقة، فنطعمها وندللها ونعتني بها.

“زمرد” و”وسخة” اسمان لقطتين أخريين تتجولان في ساحة سجن الدامون بين الأسيرات.

أذكر يوما أنني وجدت نملة تسير بشكل دائري على “المروحة”، فقلت لصديقتي هذه النملة تلعب في الملاهي.. في السجن نخلق الحوار والابتسامة من العدم.

نشاهد أيضا الطيور المختلفة سواء تلك المهاجرة أو الصقور والغربان، ومؤخرا ظلّ غراب يزورنا وأسميناه على اسم أحد أقسى السجانين معنا في التعامل.

  • نفوذ حمّاد كانت أصغر أسيرة عندكم في السجن ودخلته بعمر 14 عاما، حدثينا عن هذه الطفلة التي تحررت معكن في الصفقة؟

أدخلت نفوذ براءة وحيوية الطفولة على السجن وحافظت على براءتها وروح الدعابة وحب الترفيه في شخصيتها رغم ظروف السجن القاسية.

كانت تصنع ألعابا وتبتكر فعاليات من اللاشيء وكنت انخرط معها دائما في كل ما تنظمه كوني كنتُ أعمل كمُفعّلة ومهجرة للأطفال قبل أسري.

قررت نفوذ ذات يوم أن تصنع طائرة ورقية وفعلت ذلك من أدوات بسيطة، وعندما خرجنا إلى الساحة قالت لي إنها تريد أن تطلقها فقلت لها لا سماء ولا هواء في السجن لتحلق طائرتك.. حاولت نفوذ لكنها لم تنجح.

قلت لها ستطير في أحلامك هذه الطائرة لا بالسجن.. تأثرتُ وكتبتُ قصيدة عن تلك الحادثة قلت في مطلعها: طيارة بالسجن طارت وما طارت.. وأحلام الصبا بالسجن غارت.

  • بعد تحررك نعلم أنكِ تضعين علاجك أولوية الآن، ما التدخلات الطبية العاجلة التي تستدعيها حالتك؟

أجريت لي في السجون 3 عمليات جراحية عامي 2018 و2023 وتم خلالها ترميم الترهل في جفن العين اليمنى، ومعالجة الالتصاقات في منطقة الإبط، وفصل أصابع اليد عن بعضها لكن الأصابع عادت، والتصقت مجددا بسبب عدم المتابعة وكذلك عملية الإبط تحتاج إلى إعادة.

أنا أنثى وكل أنثى تحب أن تظهر بمظهر جميل، والتشوهات بسبب الحروق تشعرني بالضعف أحيانا، إضافة إلى مشكلات أخرى كالكتلة الجلدية التي تغلق مجرى التنفس من الأنف وحروق الأذنين وغيرها.

كل هذه العمليات الجراحية والإجراءات العلاجية ملحّة وأتمنى أن أتمكن من الحصول عليها.

  • سمعنا عن رغبتك في العلاج خارج فلسطين، لماذا؟

لا أريد أن يلاحقني الاحتلال حتى في رحلتي العلاجية، فمنذ خروجي من الزنزانة وحتى الآن أنا أعلم أنهم لن يتركونا وشأننا، وقالوا لي قبيل تحرري عندما نطلبك للتحقيق يجب أن تحضري.

أريد أن أخوض رحلتي العلاجية بأريحية، ويكفيني الألم الذي سينجم عن العمليات الجراحية، ولا أريد ألما نفسيا إضافيا.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.