قبل شهور أعلن المركز الدولي للبحوث في المناطق الجافة والقاحلة “إيكاردا”، عن نتائج دراسته التي أجريت بالتعاون مع مركز البحوث الزراعية المصري، بشأن إنتاج رغيف خبز مدعم بحبوب الشعير إلى جانب القمح، وكانت الفلسفة التي انتهجتها إيكاردا للترويج لهذا المنتج البحثي، هي أنه مع تغير المناخ لن تكون لدينا رفاهية التمسك بالطعام الذي تعودنا عليه، وسيتعين علينا الاتجاه إلى ما هو متاح.
وحتى الآن لا تملك مصر إنتاجا محليا ضخما من الشعير يمكن الاعتماد عليه لتعميم إنتاج هذا الرغيف المقبول غذائيا، والمعتمد على 20% من الشعير، مقابل 80% من القمح.
ولكن مدير عام إيكاردا المهندس علي أبو سبع، الذي طلب من مراسل “الجزيرة نت” المشاركة في تجربة لتذوق هذا الخبز الجديد، قال: “أردنا ان نلفت الانتباه لهذا الحل، لعله يكون دافعا لمزيد من إنتاج الشعير، لأنه المحصول القادر على التأقلم مع تغير المناخ، في مقابل محصول القمح الحساس للتغيرات المناخية”.
ويوما بعد آخر، تتأكد تأثيرات تغير المناخ على محصول القمح، فقد أظهرت دراسات أن إنتاجية القمح انخفضت بنسبة 5.5% خلال الفترة من 1980 إلى 2010 بسبب ارتفاع درجات الحرارة. وبناء على التطورات الأخيرة وعلى أرقام الدراسات السابقة، توقعت ورقة بحثية نشرت في دورية “رسائل البحوث البيئية” عام 2021، انخفاضا في إنتاجية القمح بنسبة 15% في البلدان الأفريقية، و16% في بلدان جنوب آسيا بحلول منتصف القرن الحالي.
ويقول أبو سبع: “بينما تعتمد دول عربية -ومن بينها مصر- في إنتاج رغيف الخبز على القمح المستورد، إضافة إلى كمية محدودة من الإنتاج المحلي، فلن يكون هناك طريق أخرى لتحقيق الأمن الغذائي بسبب تأثير تغير المناخ على الإنتاج المحلي وإنتاجية البلدان الموردة للقمح، سوى الاتجاه للمتاح وهو الشعير”.
تحدي المناخ.. بين القمح و الشعير
الشعير بشكل عام أكثر تحملاً للبرد من القمح، ويمكن أن يزدهر في درجات حرارة أكثر برودة، كما يتكيف للنمو في ظروف مناخية متنوعة، على عكس القمح، فهو أكثر حساسية للتغيرات في درجات الحرارة، وخاصة خلال مراحل النمو الحرجة، ويمكن أن تؤثر درجات الحرارة الأكثر دفئا على المحصول وجودته، خاصة إذا تزامنت مع مراحل التطوير الرئيسية مثل الإزهار.
ويعتبر الشعير أكثر تحملاً للجفاف من القمح، ويمكنه تحمل ندرة المياه بشكل أفضل، ويتكيف مع النمو في المناطق ذات الأمطار المنخفضة، بينما يميل القمح إلى أن يكون أكثر حساسية للإجهاد المائي، والتغيرات في أنماط هطول الأمطار المرتبطة بتغير المناخ مثل زيادة وتيرة الجفاف، ويمكن أن يؤثر ذلك سلبا في إنتاج القمح.
وعادة ما يكون للشعير موسم نمو أقصر، وتسمح له هذه المدة الأقصر بالهروب من بعض الآثار السلبية للتعرض لفترات طويلة لدرجات الحرارة القصوى أو الظروف المناخية المتغيرة، وهي ميزة يفتقدها القمح، حيث يؤدي موسم نموه الأطول إلى تعريضه لظروف مناخية أكثر تقلباً، مما يزيد من قابليته للظواهر الجوية المعاكسة ودرجات الحرارة القصوى.
والميزة الأخيرة في سياق تحمل تغير المناخ، أنه تمت زراعة الشعير في مناخات متنوعة منذ آلاف السنين، مما أدى إلى مجموعة واسعة من التنوع الوراثي والتكيف مع الظروف البيئية المختلفة، ويمكن أن يساهم هذا التنوع الجيني في تعزيز المرونة في مواجهة تغير المناخ.
وكانت دراسة لباحثين من جامعة “هيريوت وات” في إدنبره استمرت لخمس سنوات، حاولت الكشف عن أسرار هذه المرونة المناخية للشعير، فوجد الباحثون أن السر يكمن في الجين “إتش في إم واي بي ون” المسؤول عن مقاومة الجفاف.
ولكل هذه الأسباب المناخية، يقول أبو سبع: “نحن نحاول من الآن لفت الانتباه لأهمية التوسع في زراعة هذا المحصول الذي كانت له قيمة كبيرة في تاريخ العالم العربي، ثم تراجع لصالح القمح، وآن الأوان لنعيد أمجاده، لأن تغيرات المناخ لن تترك لنا حرية الاختيار”.
تغيير اضطراري للثقافة الغذائية
ويعتبر الشعير من أقدم الحبوب المزروعة في الشرق الأوسط، وكان الخبز المصنوع منه غذاء أساسيا في النظام الغذائي للمجتمعات العربية القديمة التي عُرفت قيمته الغذائية الغنية بالألياف والفيتامينات والمعادن، مما ساهم في الصحة العامة للأفراد.
وبينما أصبح هذا الخبز هو المسيطر على المائدة الأوروبية حاليا لهذه الفوائد التي عرفها العربي القديم، تراجع الآن بشكل كبير في الدول العربية التي فضلت نسيج خبز القمح الأكثر ليونة ومرونة من الشعير بسبب احتوائه -مقارنة بالشعير- على نسبة عالية من بروتين “الغلوتين” الذي يساهم في مرونة وبنية الخبز.
وتحظر العديد من الدول الأوروبية -حاليا- الخبز الأبيض المصنع من دقيق القمح الفاخر الذي أُزيلت منه النخالة وطبقات البذرة، بعد أن تواتر دراسات أكدت أضراره الصحية، ومنها دراسة نشرتها دورية “العناصر الغذائية” التي ربطت بين استهلاك هذا الخبز وخطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم المعروف أيضا باسم “سرطان الأمعاء”، في حين أكدت نفس الدراسة أن الأغذية المحتوية على ستة فيتامينات ومعادن أخرى مثل الألياف والكالسيوم والمغنيسيوم والفوسفور والمنغنيز والكربوهيدرات، قللت من المخاطر، وهي عناصر توجد في الشعير.
ويقول أبو سبع: ” مع هذه الدراسات، لا نحتاج سوى بذل بعض من الجهد لتغيير الثقافة الغذائية، لإعادة الاعتبار لمحصول الشعير الأكثر مرونة في مواجهة تغيرات المناخ”.
ومن الجهود الأخرى التي تبذلها إيكاردا في هذا الاتجاه، تطوير الوجبات التقليدية في النظام الغذائي لشعوب البحر المتوسط بعد دعمها بالشعير، وذلك ضمن مشروع “ميدوهيلث”.
وأطلق هذا المشروع في أكتوبر/تشرين الأول 2021، ويستمر حتى 30 سبتمبر/أيلول 2024، وتقوم فلسفته على أن الإقبال على منتج الخبز المدعم بالشعير يمكن أن يتحقق عندما يجد المستهلك تنوعا في الأطعمة التي يدخل الشعير ضمن مكوناتها، مع التركيز على أطعمة النظام الغذائي لشعوب البحر المتوسط.
ويضيف أبو سبع أنه “في هذا الصدد نقوم بتطوير منتجات جديدة من المعكرونة والكسكسي والفريكة والبرغل بالخلط بين القمح والشعير. ومن أجل الحفاظ على التقاليد الخاصة بتصنيع تلك المنتجات، أُشركت التعاونيات النسائية من مختلف البلدان (لبنان والمغرب وتونس والجزائر) لإنتاج المنتجات الغذائية المحلية باستخدام المواد الخام المقترحة في المشروع”.
علاج عيب “البازلاء العشبية”
وإذا كان لمحصول الشعير تاريخ في الثقافة الغذائية القديمة، فإن “البازلاء العشبية” أو الجلبان، لا تحظى بنفس العمق التاريخي في المنطقة العربية مقارنة بمناطق أخرى من العالم، وهي من المحاصيل الواعدة التي تسعى “إيكاردا” لترويجها في العالم العربي باعتبارها من المحاصيل الغنية غذائيا والذكية مناخيا.
ويُزرع هذا المحصول على نطاق واسع في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي مناطق مختلفة من البحر الأبيض المتوسط، وتقول دراسات إن أصل هذا النبات كان في مناطق البلقان في بلغاريا الحالية ويوغوسلافيا السابقة، وتذهب هذه الدراسات إلى أن التدجين الأول لهذا النبات حدث في الفترة منم 6000 إلى 7000 قبل الميلاد، لكنْ هناك أدلة أثرية أكثر بعدا في إيران (9500 قبل الميلاد) وفي الهند في (1500- 2000 قبل الميلاد).
ويقول مدير مكتب إيكاردا بمصر علاء حموية في حديث مع “الجزيرة نت”: إن هذا النبات يمكنه تحمل الجفاف والملوحة، ويمكن زراعته في ظل الحد الأدنى من المدخلات الخارجية، وهو محصول متعدد الأغراض للحبوب والأعلاف والخضراوات والقش، ويعمل على تحسين خصوبة التربة من خلال تثبيت النيتروجين من الغلاف الجوي.
ويضيف: “لذلك فإن هذا المحصول الذكي مناخيا يوفر فرصة جيدة للزراعة المستدامة والأمن الغذائي، حيث يمكن زراعته عربيا في المناطق التي لا يمكن فيها زراعة محاصيل حقلية أخرى بسبب انخفاض جودة التربة وندرة المياه”.
وربما تكون مشكلة هذا المحصول الوحيدة هي أنه مثل أي بقوليات يؤدي استهلاكها بشكل منتظم ودوري وبمعدل مكثف يوميا إلى تراكم حمض أميني سام للأعصاب (بي أو دي إيه بي).
ولكن من أجل ألا يتم اتخاذ هذا العيب الموجود في كل البقوليات وليس الجلبان فقط، كمبرر لتجاهل هذا النبات الذكي مناخيا، يشير حموية إلى أن إيكاردا عملت على حل تلك المشكلة، ونجحت أبحاثها في تخليص النبات من الجين المسبب لها.
ويقول: “رغم ذلك، سنحتاج إلى بذل جهد أكبر لإدخال هذا المحصول للثقافة الغذائية، لأنه مع تغيرات المناخ التي ستزداد شدتها كما تتوقع الدراسات، سنصبح أمام تحد كبير، وهو التعامل غذائيا مع تلك الحلول المتاحة، والتخلي عما تعودنا عليه”.
تحدٍ بات قريبا
هذا التحدي الذي أشار إليه حموية بات على مقربة منا، فتشير تقارير الأمم المتحدة إلى ارتفاع درجات الحرارة في مناطق الدول العربية بمعدل أسرع بمرتين من المتوسط العالمي بسبب تغير المناخ، كما أصبحت حالات الجفاف أكثر تواترا وشدة، مما يؤدي إلى تفاقم التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي، بما في ذلك ندرة المياه.
وبحلول عام 2050، تتوقع تلك التقارير أن تؤدي ندرة المياه المرتبطة بالمناخ إلى خسائر اقتصادية تعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، وعلاوة على ذلك فإن 45% من إجمالي المساحة الزراعية في المنطقة معرضة للملوحة واستنزاف مغذيات التربة، ومن الممكن أن ينخفض توافر المياه والإنتاجية الزراعية بنسبة 30% أخرى بحلول 2050.
وتتوقع دراسة نشرتها دورية “ريغونال إنفيرومينتال تشانغ” في مارس/آذار من العام الماضي، تضافر هذه الأوضاع المناخية مع الزيادة السكانية لتؤدي إلى ارتفاع في الواردات الغذائية بالمنطقة العربية لتصل إلى 50% عام 2050، وسيكون المغرب العربي الأكثر تأثرا عندما يصبح معتمدا على الواردات لتلبية ما يقرب من 70% من احتياجاته الغذائية.
وتؤكد هذه الدراسة أن أحد أدوات تجنب هذا السيناريو هو تغيير العادات الغذائية، باتجاه الاعتماد على النظام الغذائي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، وهو التوجه الذي تحاول “إيكاردا” الترويج له من خلال مشروع “ميدوهيلث” القائم على تطوير هذا النظام الغذائي بما يتماشي مع التحديات التي يفرضها تغير المناخ.