بيروت– لم تعد رحلة الطريق اليومية من مدينة صور في جنوب لبنان إلى الحدود اللبنانية-الفلسطينية، والتي تبعد مسافة تتراوح بين 20 إلى 40 كيلومترا، آمنة كما السابق، فقد أصبحت مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

فقد أجبر التصعيد العسكري والهجمات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل غالبية سكان القرى والبلدات الحدودية الجنوبية على ترك منازلهم بحثا عن مكان أكثر أمانا، في رحلة نزوح قسرية تتجدد مع كل عدوان إسرائيلي على لبنان، وتبقى أنظارهم شاخصة نحو مناطقهم لحين عودتهم إليها فور وقف العمليات العسكرية في الجنوب.

في الوقت نفسه، يضطر بعض الأشخاص إلى التوجه يوميا إلى المناطق الحدودية على الرغم من الخطر، منهم من يتفقد ممتلكاته وأرزاقه، ومنهم من يسعى إلى كسب قوت يومه في ظل الأزمة المعيشية والاقتصادية الخانقة، ومن بين هؤلاء سائقو سيارات الأجرة العمومية “التاكسي”.

 رحلة أخيرة!

الجزيرة نت قصدت موقف السيارات العمومية في مدينة صور، وقابلت سائق التاكسي محمد بشير البالغ من العمر (51 عاما)، من مخيم برج الشمالي الفلسطيني، الذي يعمل في هذه المهنة منذ 37 عاما، ورافقته في رحلته إلى الحدود اللبنانية، حيث روى تفاصيل يومياته وما يخالجه من شعور وحنين كلما اقترب نحو فلسطين ورمقها بعينيه، متمنيا أن تكون عودته قريبة، وتكون رحلة التاكسي الأخيرة له في لبنان.

يبدأ يوم محمد في السادسة صباحا، يعمل محمد بصبر، ويتحمل مشاق مهنته التي تجمع هذه الأيام بين الحياة والموت. يقوم بعمله الذي أفنى عمره فيه بكل تحدٍ وإصرار، ويواصل الكدّ لإطعام أفراد أسرته.

ولد محمد في لبنان لاجئا، ولكن والده وجده من مدينة حيفا التي لا تبعد سوى 40 كيلومترا عن حدود الجنوب. يقول، للجزيرة نت، بحسرة “ما أصعب أن تصل إلى حدود وطنك.. ولا تستطيع الدخول إليه، ترمقه بنظرك فقط وتعود، في مشهد يومي متكرر”.

يسرد سائق التاكسي “أبو عماد” تفاصيل روتينه اليومي، مؤكدا “أخاطر بحياتي يوميا من أجل العمل، انطلق من موقف السيارات في مدينة صور، متجها نحو الحدود اللبنانية. إذ أقوم بمهمة نقل النازحين إلى صور أو بيروت، أو إيصال الزبائن، ومنهم النازحون، ليتفقدوا منازلهم على الحدود، وليحضروا معهم بعضا من أغراضهم المنزلية والشخصية”.

نزوح ومغامرة

“كل شيء تغير اليوم، حتى الطرقات”، يضيف أبو عماد “كانت في السابق مزدحمة بالسيارات، لكنها أصبحت شبه خالية، لقد تحولت الرحلة إلى مغامرة بسبب القصف العشوائي الإسرائيلي على القرى والبلدات، وكل شيء يتحرك على الطرقات”.

يستعيد ذكريات ومشاهد حرب يوليو/تموز 2006 ويقول “أمام هذا الواقع، تعجز المفردات عن التعبير، فأبناء القرى الحدودية دائما يدفعون الثمن الباهظ، ويواجهون واقعا مأساويا، ويضطرون مكرهين إلى النزوح من أراضيهم وبيوتهم وأرزاقهم، لكنهم صامدون وصابرون قناعة بالمقاومة”.

ويوضح أبو عماد للجزيرة نت أنه اليوم يتحرك في مناطق خطرة بسبب حاجة المواطنين للتنقل بينها، وأن الناس مُجبرة على مواصلة الحياة مع الحرب. ويقوم بنقل الزبائن إلى مناطق مثل مروحين، يارين، بنت جبيل، أو أي منطقة حدودية، ويتفاجؤون من حجم الدمار والأضرار التي لحقت بممتلكاتهم. يتنهد بعمق ويردد “يعتصر قلبي حزنا لما يجري في غزة والجنوب، ولكننا رفعنا رأس الأمة”.

وخلال رحلتنا معه، يسرد لنا “أبو عماد” حكايات لا تنتهي، فهو الذي عاش الحروب وكأنها جزء لا يتجزأ من حياته. يحكي والغصة لا تفارقه “أوصلتُ مرة رجلا قصفت إسرائيل قرب منزله في بلدة زبقين جنوب لبنان وعائلته داخل المنزل، عشت معه الخوف وقدت السيارة بسرعة جنونية. وصلنا المنزل ورأينا دمارا لا يمكن وصفه، لكن الحمد لله الأسرة بخير، كل شيء يُعوض، كما يقول المثل بالمال ولا بالعيال”.

الوصول إلى الحدود ليس بداية المخاطر بل البداية في زمن الحرب

تشارك المصير

ويتحدث محمد عن تحولات الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد، حيث المعيشة غالية جدا، والنازحون يتحملون تكاليف التنقل المرتفعة بسبب الظروف الصعبة. مؤكدا أنه لا يأخذ أجرا ممن لا يملك المال الكافي لتكاليف التنقل. كفلسطيني يعيش في لبنان، يرى أنه “يقوم بالحد الأدنى بأداء واجبه اتجاه أهل الجنوب الذين قدموا التضحيات الجسام في سبيل القضية الفلسطينية ونصرة شعبها”.

ويتابع قائلا “نحن اليوم، الشعب اللبناني والفلسطيني، شعب واحد، ونتشارك المصير ونشارك معا في دفع ضريبة الدم، بسبب الحرب مع عدو لا يميز بين مدنيين أو نساء أو أطفال. إنه عدو لا يعرف للأخلاق والإنسانية معنى، يُدمر أرضنا ويقتل أطفالنا الأبرياء”.

وما إن اقتربنا من لوحة إرشادية في الطريق كتب عليها “فلسطين”، فجأة، من دون مقدمات، سالت دموع أبو عماد وقال بحرقة “أشعر بالحنين والألم الشديدين عندما أصل إلى هنا، ولا أستطيع أن أقترب أكثر، لا يمكن زيارة بلدي أو الدخول إليه”. ويُكمل “لكن لدي أمل أن يوما ما سأصل وأستطيع الدخول والاقتراب أكثر”.

وفي ختام رحلتنا في سيارته العمومية، يؤكد “أبو عماد” أن الخطر يتصاعد كلما اقتربنا من الحدود اللبنانية أكثر وأكثر، مثل قرى يارين، مروحين، الضهيرة، علما الشعب، وغيرها، وهذا يجعل الوصول إلى الحدود ليس نهاية المخاطر، بل البداية في زمن الحرب.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.