“احترفتُ الصحافة، ووقعتُ في هوى الأدب، وكتبت الشعر صغيرة، ودخلت من باب القراءة لعالم الرواية، ومنها ولجت لعوالم كثيرة عشت بينها ولم أخرج منها إلى الآن”. هكذا بدأت الكاتبة المصرية هالة البدري حوارها.

وحدثتنا عن رواياتها التي شغلتها التغيرات الحديثة في المجتمعات العربية، وهي تتنقل بين عدة عواصم عربية، ولما عادت إلى مصر لم تجد فردوسها المفقود، وظلت 18 عاما تبحث عن السبب، فكانت روايتها الأساس بجزأيها: “منتهى” و”ليس الآن” التي عاصرت أسباب التغيرات الاجتماعية للأسرة المصرية في العصر الحديث حتى حقبة بداية الثمانينيات.

زارها الموت صغيرة وخطف أغلى ما لها، وبقي الحزن رفيق دربها، وبزغ لها سؤال المصير موجعا، فكتبت “طي الألم” واعتقلتها في الخزانة، ثم أفرجت عنها بعد 30 عاما.

نحو 30 عملا بين رواية ومجموعة قصص وحوارات وكتب رحلات وتحقيقات استقصائية؛ كتبتها الروائية هالة البدري خلال مشوارها الأدبي الذي تُوج هذا العام بفوزها بجائزة الدولة التقديرية (2023) عن مجمل أعمالها، فإلى الحوار:

  • كيف كانت البداية من العراق؟ ولماذا سافرتِ إليها في وقت مبكر؟

تدربت وعملت في مجلة “روز اليوسف” خلال دراستي وبعد تخرجي من كلية التجارة، ولحقت بزوجي الدبلوماسي في عمله بمدينة بغداد، وعملت بمكتب “روز اليوسف” هناك، وكنت أنا والصحفي فتحي خليل نغطي أحداث العراق وسوريا والأردن التي ذهبت إليها في رحلات متتالية.

  • بعد كل هذه السنين تفتقدين بغداد؟

أفتقدها جدًّا؛ في بغداد بدأت عملي الصحفي الاحترافي مراسلة، وسافرت لمعظم مدن العراق، وفي بغداد أيضا بدأت حياتي العائلية بالزواج، وفيها أيضا أنجبت أول أبنائي، وفيها أصدرت أول رواية و3 كتب عن نساء العراق والعمال والفلاحين المصريين في العراق، ولي مع أهل العراق ذكريات لا تنسى، وأتابع تطورات أحداثهم بشكل يومي، وآخر زيارة لبغداد كانت عام 1988.

وسكنت بغداد في ذاكرتي وعقلي حتى كتبت رواية “مطر على بغداد ” صدرت نهاية 2010، بعد أكثر من 20 عاما من تركي العراق، ويكون حظ الرواية أنها تصدر قبل شهر واحد من ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

  • ومتى عرفت أنك ستكونين كاتبة؟ ومن زرع فيك حب الكتابة؟

بدأت الكتابة وعمري 12 سنة، وفي بيتنا كان هناك أمران ثابتان: الكتب، والحوارات والنقاش. كانت في البيت مكتبة كبيرة بها مختلف الكتب، ووالدي قاض يهوى القراءة والأدب، والبيت كله يتكلم في الأدب، وعلى مائدة الطعام كل شيء مطروح من شعر لقصة لأغنية، واخترت أن يكون الأدب عالمي.

وكان والدي يشجعنا من خلال جملته الشهيرة: “على الشخص أن يعمل ما يحبه ويخلص له”. بدأت كتابة الشعر واتجهت للرواية، وكتبت “سباحة في قمقم” وقدمها الدكتور يوسف إدريس، ومن البداية اخترت أن أكون كاتبة روائية لا شيء غير ذلك.

منتهى التحولات

  • رواية “منتهى” زمنها المجتمع المصري خلال الحربين العالميتين. ما الذي دفعك لكتابة مثل هذا الموضوع الصعب والبعيد عن اهتمامات الكثير من الكاتبات؟

عندما رجعت من بغداد سنة 1980م، بدأ عصر “الانفتاح الساداتي”، ولاحظت التغيرات التي طرأت على طبيعة المجتمع المصري، ولما سافرت لقريتي (السنطة – غربية، وسط الدلتا)، رأيت كيف غيرتها رياح الاستهلاك، وأن مصر كلها بقراها ومدنها حدثت لها تحولات لم أفهمها، فقد تغير نمط الإنتاج كما تغير شكل الاستهلاك، وتبدلت العلاقات بين الناس الذين لم يعد يشغلهم إلا البحث عن الفلوس.

في ظل تلك الحيرة كتبت روايتي، وظللت أعمل عليها 14 عاما حتى خرجت للنور، وهي رواية تبحث في الروح المصرية من القديم حتى وصلت إلى العصر الحديث وأحوال المصريين في الحرب، وردود أفعالهم وصدى سلوكهم خلال الأزمات.

واستكملت الرواية في جزئها الثاني “ليس الآن” بعد 4 سنوات، وأنهيتها بمشهد مقتل الرئيس السادات، فكان موضوع “منتهى” الريف والقرية، وكيف كانت الحرب عاملا ضاغطا على المصريين، لكن الأساس كان الاحتلال وأثره على الفلاحين بشكل عام.

روايات السنين الطويلة

  • ألاحظ أن بعض رواياتك تستغرق كتابتها سنين طويلة. فما السبب؟

رواية “منتهي” عملت فيها بشكل مستمر 14 عاما وأنا أقرأ وأبحث وأتقصى، ولهذا هي من أكثر الروايات متعة في القراءة، وبذلت فيها جهدا كبيرا لكي تصل المعلومة التي أردتها للقارئ بيسر وحب.

وانتهيت من “منتهى” لأستمر في العمل 4 سنوات أخرى حتى خرجت “ليس الآن” للنور، هذه رواية عملت فيها 18 عاما بلا انقطاع، ولم أكتب بجوارها عملا آخر.

ولما كتبت “طي الألم” كتبت فيها علاقتي بالموت، فقد ألقت وفاة زوجي فجأة وهو في عز شبابه العديد من الأسئلة عن الحياة والموت والمصير، كتبتها ثم وضعتها في الدرج 20 عاما، ونشرتها كما هي، وكذلك رواية “وادي الكون” استغرقت مني نحو 20 عاما.

طقوس وموت وتمرد

  • هل تدهشك شخصيات رواياتك؟

تدهشني شخصياتي جدا أثناء التكوين عندما تكون لديها حرية البناء والتشكل، وإن لم تعجبني أكتبها ثانية حتى تعطيني الدلالات، وتصبح شخصا من الأسرة تأكل وتشرب معي، هنا تدهشني وهي تتصرف كشخص مستقل.

رواية "امرأة ما" لهالة البدري (الجزيرة)
  • ولكن ماذا تفعلين عندما يتطلب سياق الرواية التخلص من شخصية أو أكثر؟

تصمت قليلا ثم تستطرد: حكمت مرة على واحدة من شخصياتي بالموت، كنت أكتب ودموعي تسابق الحروف، وأنا في قمة الحزن، دخل علي ابني -وكان ما زال طفلا صغيرا- وانتابته حالة من الذعر الشديد وأنا أجهش بالبكاء ومنهارة تماما.

  • كنت صحفية ورئيسة تحرير لمجلة معروفة.. كيف وفقت بين الصحافة والأدب؟ وهل تختلف طقوس الكتابة للصحافة عما تكتبينه للأدب؟

العمل في الصحافة أعطاني خبرات ومرونة في التعاطي مع الشخصيات؛ غطيت حروبا ورأيت أثرها على الضحايا، والصحافة أيضا أكلت من عمري ووقتي أضعاف ما أعطتني من خبرات وعلاقات.

وخلال عملي الصحفي كنت أستطيع الكتابة في أي وقت وأي مكان، أكتب في صالة التحرير وتحت أي ظروف، وفي وجود الآخرين وهم يتناقشون في أمور مختلفة أستطيع أن أنجز عملي الصحفي.

ولكن الكتابة الأدبية تختلف؛ فلا أستطيع الكتابة في وجود أي صوت، وأنقطع عن العالم وأتفرغ للكتابة تماما، وفي كل الأحوال لا بد من موسيقى. واختلفت طقوس الكتابة عندي حاليا عما سبق، حيث رفاهية الاختيار وأن أحدد زمن الليل للكتابة، والآن أكتب في الليل أو النهار حسب ما تسمح لي الأحوال.

أحدد لشخصياتي مسارا معينا تسير فيه، ثم مع تشابك الأحداث والشخصيات أراها ترفض خطتي وتنحو نحو مصير مختلف، ولأنني أحب التمرد أشجعها على الانطلاق

  • ماذا تفعلين إن تمردت عليك الشخصية وأبت الانصياع للدور الذي رسمته لها؟

يحدث هذا كثيرا مع شخصياتي؛ أحدد لها مسارا معينا تسير فيه، ثم مع تشابك الأحداث والشخصيات أراها ترفض خطتي وتنحو نحو مصير مختلف، ولأنني أحب التمرد أشجعها على الانطلاق، وهذا ما حدث في رواية “نساء في بيتي”؛ فالشخصيات اللائي استضفتهن أقمن محاكمة، وهن أنفسهن كن يتحكمن في الكتابة.

  • مع هذا الارتباط بشخصيتك الروائية، كيف تقومين بإنهاء الرواية وطي صفحتها للأبد؟

أنا من أكثر الكتاب شعورا بصعوبة إنهاء العمل، فلا أكتب كلمة النهاية، ولا آخذ العمل للناشر أو المطبعة؛ فارتباطي بشخصياتي كبير لدرجة أنني لا أستطيع أن أخرجها من حياتي، بل أتركها معي فترة لا تقل عن 6 شهور، وهي فترة أجهز فيها لعملي الجديد، وعندما أندمج في العمل الجديد وتتولد علاقات مع شخصياته، هنا من الممكن أن أقطع الحبل السري بيني وبين عملي الذي تم بناؤه واكتمل العمل فيه.

عمل حربي

  • كيف تقومين بالتجهيز لعمل جديد؟

تولد فكرة العمل أولا، ثم أبدأ في رحلة أخرى للتحضير من قراءات مختلفة في كل المجالات من شعر لقصة لتاريخ لأنثروبولوجيا وكتب وسفر، وكأنني أستعد للحرب.

ورغم ثورة الاتصالات التي تسيطر على العالم من إنترنت وخلافه، فإن رواية مثل “وادي الكون” -وهي آخر إصداراتي- أخذت مني زمنا طويلا لكتابتها، من قبل عام 2000 بدأت العمل مع قراءة وتجميع لكل الأساطير والأديان والمعتقدات الشعبية في العالم، ولقاءات مع علماء أديان وأنثروبولوجيا وميثولوجيا ومؤرخين. تجهيز استغرق سنوات، ومع كل هذا التراكم المعرفي تأتي لحظة العطاء، وأنسى ما كان وأبدأ الكتابة.

لم تشغلني قضية النسوية التي يرفع البعض لواءها، ورواياتي إن رفعت اسمي عنها لن يعرف القارئ هل الكاتب رجل أو امرأة، ولكن أكتب عن درجة الظلم الذي تتعرض له المرأة كما يتعرض له الرجل

النسوية لا تشغلني

  • ما رأيك في التقسيمات التي يطلقها البعض عن جنس الكتابة؟ وهل هناك كتابة “نسائية” وأخرى “رجالية”؟

لم أهتم أبدا أن أكتب عما جرى مع جنس ضد آخر، ولم تشغلني قضية النسوية التي يرفع البعض لواءها، ورواياتي إن رفعت اسمي عنها لن يعرف القارئ هل الكاتب رجل أو امرأة، ولكن أكتب عن درجة الظلم الذي تتعرض له المرأة كما يتعرض له الرجل، وعندما يعرض لي الموضوع أكتب عنه سواء كان رجلا أو امرأة.

الشخصنة شيطنة وتطرف وعنصرية، وأنا لا يهمني ذلك، بطل رواية “منتهى” ضابط، وفيها مشاهد تبدو المرأة قوية ومستضعفة، وأرى أن المرأة في هذه الرواية كانت سعيدة بإنجازها، وتلقي بظلالها على الشخصيات من حولها، مثل شخصية الأم التي تمثل أغلب الأمهات في كل أنحاء الدنيا.

  • مَن مِن الكتاب يثير  إعجابك ويمثل بوصلتك في الكتابة؟

معجبة بعدد من الكتّاب “بعدد شعر رأسي”، كتّاب جيل الستينيات في مصر كان جيلا مثمرا جدا وهم جميعهم قمم في الكتابة، وقدموا كتابات نوعية مختلفة، منهم إدوارد الخراط وجمال الغيطاني والبساطي وعبده جبير وبهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد ولطيفة الزيات.

ومن الجيل الجديد معجبة بكاتبات وكتاب شباب بما يملكونه من موهبة، منهم شيرين فتحي، وياسمين مجدي، وداليا أصلان، ومي التلمساني، وميرال الطحاوي، وصفاء النجار، ومحمد إبراهيم طه، ومحمد علي إبراهيم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.